رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تأريخ للمنسيين

ما أن تنتهى من قراءة كتاب إدواردو جاليانو «أطفال الزمن- تقويم للتاريخ البشرى» ستشعر بأنك أمام شريط عرض سينمائى يقاوم سرقة الذكريات، الكاتب الأورجوايانى العظيم أراد أن يرد الاعتبار للهامشيين والمنسيين الذين قررت السلطات فى العالم كله نفيهم وشطبهم من خريطة الحضور المؤثر فى الوعى العام، هو يؤرخ للأبطال المجهولين ولتاريخ النزف الإنسانى من عصر الكهوف إلى عصرنا الحالى، الكتاب عدد صفحاته بعدد أيام السنة، مؤلفه يتكئ على ذكرى يوم ليعيد إنتاج حكاية، أو يشير إلى شىء تجاهلته الرواية الرسمية، كتابة من القلب لرجل مهموم بالبشر، قدرة مذهلة على الاختزال تترك أثرًا شعريًا عذبًا، كتابة نادرة احتفت بها صحافة العالم قبل عشر سنوات، لا يكتب التاريخ ولكنه يستدرجك إلى دهاليزه برشاقة، فى كتابة صحفية نشرها الرجل كعمل صحفى، يعتمد الكاتب على خبراته مع المعرفة، وخبرته مع الأساطير وخبرته مع الموسيقى والشعر والمسرح والسياسة، ومع هذا لا تشعر بأنه يستعرض ثقافته عليك، هو فقط يستأنف حوارًا معك، ففى اليوم العالمى للموسيقى «٢٢ نوفمبر» يقول لك: «يروى الذين يمتلكون ذاكرات متواصلة: كانت الشمس فى أزمنة أخرى ربة الموسيقى، إلى أن سرقت الريح الموسيقى، مذاك، تعزى الطيور الشمس بالحفلات فى بداية ونهاية النهار، ولكن المغنين المجنحين لا يستطيعون الآن أن يتنافسوا مع صرير وزئير المحركات التى تحكم المدن الكبرى، ولا يُسمع غناء الطيور، أو ربما يسمع القليل منه، عبثًا تفجر صدورها وهى تحاول، ويدمر الجهد زغاريدها، لم تعد الإناث تتعرف على ذكورها، إن الذكور، التنور المتمكنين، والجهير الذى لا يقاوم، يفعلون ما بوسعهم، ولكن فى جلبة المدينة لا أحد يستطيع تمييز أصواتهم، وتنتهى الإناث إلى قبول عناق أجنحة غير مألوفة»، جاليانو يبحث عن مداخل مختلفة لكى لا يكون مثل الآخرين، وكل مرة يسبح بك فى منطقة لم تتوقع أن يأخذك إليها، وأسأل نفسى أحيانًا لو طلب إلىّ أن أكتب شيئًا عن يوم الأرض «٢٣ أبريل» مثلًا، وأقول سأذهب إلى الطرق المألوفة التى توفر المعلومات الكافية مع بعض المهارات التى اكتسبتها مع الكتابة وفى النهاية سأخرج بموضوع لا بأس به يناسب هذا اليوم، ولكن صاحب شرايين أمريكا الجنوبية المفتوحة له رأى آخر، فيكتب فى هذه المناسبة: قال أينشتاين مرة: «إذا اختفت نحلة عن ظهر الأرض فلن يعيش الإنسان أكثر من أربع سنوات، إذا اختفى النحل لن يكون هناك تلقيح.. لن يكون هناك بشر»، قال ذلك لبعض أصدقائه، المعلومات تؤكد الآن أن عدد النحل يقل بإطراد فى العالم، وهذا ليس لأسباب كونية أو بسبب لعنة الشيطان، ولكن بسبب: قتل الغابات الطبيعية وانتشار الغابات المزروعة، بسبب زراعة المحصول الواحد من أجل التصدير، مما يحد من تنوع الكوكب، بسبب السموم التى تقتل الآفات ومعها كل شىء آخر، بسبب الأسمدة الكيماوية التى تخصب النقود وتقحل التربة، فى ١١ نوفمبر ١٨٢١ ولد دوستويفسكى العظيم للمرة الأولى كما يقول صاحب ذاكرة النار، وولد فى المرة الثانية نهاية ١٨٤٩ فى سان بطرسبرج، كيف؟ يحكى جاليانو: «أمضى دوستويفسكى ثمانية أشهر فى السجن منتظرًا فرقة الإعدام، فى البداية كان يأمل أن هذا لن يحدث أبدًا، ثم قَبِل أن هذا سيحدث حين يحدث، وفى النهاية، أراد أن يحدث الأمر مباشرة، وكلما حدث أبكر كان أفضل، لأن الانتظار أسوأ من الموت، هكذا استمر الأمر إلى أن جُر باكرًا فى صباح أحد الأيام هو والرجال الآخرون المقيدون بالسلاسل إلى ساحة سيمينوفسك على ضفاف النيفا، أصدر الآمر الأوامر، وأعصب الجنود أعين ضحاياهم، ومع الأمر الثانى سمع صوت تلقيم البنادق، ولدى الأمر الثالث «سددوا» كانت هناك توسلات، وأنين، وبعض نحيب. ثم الصمت. والمزيد من الصمت، إلى أن فى ذلك الصمت الذى بلا نهاية، قيل لهم إن قيصر روسيا كلها، وفى لفتة كريمة، منحهم العفو». 

الكتاب لا يمكن اختزاله فى مقال مزدحم بحكايات مماثلة من كل العصور، فمثلًا فى ١٤ مارس ١٨٨٣ اجتمع حشد فى جنازة كارل ماركس فى مقبرة بلندن، كانوا أحد عشر شخصًا، إذا أضفنا متعهد الدفن، صار كلامه الأكثر شهرة نقشًا على ضريحه «لقد فسر الفلاسفة العالم فحسب، بطرق مختلفة، أما الهدف الآن، على أى حال، فهو تغييره». أمضى ماركس حياته هاربًا من الشرطة ودائنيه، أما فيما يتعلق بعمله الرئيسى، قال: «لم يكتب أحد هكذا كثيرًا عن النقود وهو لا يملك إلا القليل، لم يقدم لى كتاب (رأس المال) ثمن السيجار الذى دخنته وأنا أؤلفه».