رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة فى البلاط الخديو


ويري القنصل الأمريكي في كتابة "مصر من غدر بها "أن الخديو في الصباح التالي بعد قبول استقالة صادق باشا استيقظ في ميعاده، وأرسل في طلب صادق باشا ليصحبه في نزهة الصباح، وكان هذا يحدث عادة حينما يكون لديه بعض المسائل الهامة التي يرغب في مناقشة الوزير فيها، ومن المحتمل أن صادق لم يكن يفكر في شىء غير الصداقة، لأجل ذلك استجاب لطلب الخديو وركب معه في العربة المفتوحة، كانا يدخنان ويتجاذبان أطراف الحديث كالمعتاد، ثم عبرا كوبري قصر النيل متجهين إلى قصر الجزيرة. وصعدا معا درجات السلم ودخلا القاعة الفخمة، وعند تلك اللحظة أغلق الباب خلفهما.
تم تشكيل مجلس خاص كان من بين أعضائه شريف باشا وتوفيق باشا الذي أصبح خديويا فيما بعد، وقد حوكم صادق أمام المجلس غيابيا بتهمة الخيانة وأدين وحكم عليه بالنفي وتحديد إقامته في دنقلة، بلدة صغيرة في بلاد النوبة على الشاطئ الأيسر للنيل، وعلى بعد ألف ميل من القاهرة، وهي المركز الرئيسي لمديرية صغيرة تحمل نفس الاسم، ويقال إن بعض المساجين الآخرين نفوا إلى هذا المكان ليعملوا في المناجم. كان من المفهوم أن النفي إلى دنقلة معناه الحكم بالإعدام بواسطة الخنق أو السم أو أى وسيلة أخري.
بالفعل قامت باخرة من القاهرة بعد القبض على صادق وسارت في النيل جنوبا حتى وصلت إلى الشلال الأول، لكي توصل السجين في الظاهر، وواصلت باخرة ثانية المسير إلى الشلال الثاني، ومن هناك أخذته قافلة صغيرة إلى دنقلة، ولم يكن يسمح لأحد بزيارة هذه البواخر أثناء سيرها في النيل، وكانت العملية كلها محاطة بسرية تامة. 
كانت الرحلة إلى دنقلة تستغرق حوالي ثلاثين يوما، وجاءت الأخبار بالفعل بأن إسماعيل صادق المفتش قد مات على إثر وصوله إلى دنقلة بسبب الإفراط في الشراب، وظهرت بعد ذلك شهادة طبية ادعت أنها صدرت من دنقلة تشهد وفاة لهذا السبب، وكانت تلك هي الوفاة الرسمية. 
يقول فارمان إن الوفاة الحقيقية لإسماعيل صادق المفتش ظهرت عنها روايات عديدة، وأن الرواية الأكثر شيوعا وصدقًا هي أن صادق باشا ترك في قصر الخديو في اليوم الذي قبض عليه فيه، ثم خنق على مسافة قصيرة من المدينة، وتم وضعه في جوال مثقل وألقي به في النيل، واستمرت الباخرة في رحلتها كما هي، وذكرت الإشاعة كل التفاصيل بما فيها الباشا الذي كان مسئولا عن الباخرة. 
وبعد إبعاد إسماعيل وتولي الإنجليز والفرنسيين الرقابة التامة على مالية البلاد اكتشفوا أسماء لأشخاص عديدين يتقاضون معاشا حكوميا، ومن هؤلاء رجل من الصعيد اسمه إسحق بك، وكان إسحق هذا يعمل جنديا في القاهرة، وكان ضخم الجثة وقوي البنية، وفقد إبهامه ويتقاضى معاشًا بسيطًا. 
يقول فارمان إن أحد الكتاب الإنجليز المستر س. ماك كون روي له قصة إسحق بك هذا. 
يقول ماك إنه بعد ساعة من القبض على صادق باشا تم استدعاء إسحق إلى الغرفة التي كان معتقلا بها إسماعيل صادق المفتش، حيث وجد بها الأمير حسن والسجين، وقد جرد من ملابسه، وهمس الأمير في أذن إسحق أن يقتل السجين إما بطريق الخنق أو بأي طريقة أخري مؤلمة للغاية دون أن يترك أثرا من آثار العنف. 
وقد اختار إسحق الوسيلة الأولي بعد أن طرح السجين على ظهره حاول أن يجبس أنفاسه بيده اليسرى، وأن يخنقه بيده اليمني، وبالرغم من أن صادق كان ضئيل الحجم إلا أنه قاوم من شدة الألم بقوة هائلة، وتمكن من الإمساك بإصبع إسحق في فمه، وأخذ يعضه حتى فصله عن يده تمامًا، وفي الليلة التالية لف جسده في قماش سميك وربط فيه بعض الثقل ووضع في غرارة ثم حمل على ظهر باخرة كانت تنتظر، وأبحرت جنوبا في النيل حيث ألقيت الجثة على بعد بضعة أميال من القاهرة.
بالرغم من الشكوك التي تحيط برواية إسحق بك، لأنها لم ترد على الألسن إلا بعد نفي الخديو إسماعيل وابنه الأمير حسن، وكان الاثنان يديران مصر بعيون وآذان صاغية لكل ما يمس سمعة إسماعيل ويسارعون بنشره في أوروبا. 
وفي اليوم التالي للقبض على إسماعيل المفتش أرسل القنصل الإنجليزي فيفيان رسالة إلى حكومته يتحدث فيها عن المأساة الأليمة التي تتميز بها الحياة الشرقية، ولكنه أضاف أنه "كان أكبر حجرة عثرة في سبيل أى فرصة للإصلاح المالي أو الإداري، ومن الممكن اعتبار موته - مهما كانت الوسيلة – مصلحة عامة كبري".
ويقول فارمان إنه قابل الخديو في اليوم التالي للقبض على صادق ووجده مضطربا للغاية، وكانت تلك هي المرة الأولي التي شاهدته فيها فاقدًا أعصابه، وكان ثائرا على المفتش، ثم أخذ يروي كيف رفعه من فلاح عادي إلى أرفع منصب في مصر، وكيف أخذ على عاتقه أن يشعل ثورة ضده. وأخذ يقص على مسامع القنصل الأمريكي بعض التفاصيل التي زعم أنها حقيقية، والتي علم بها من بعض حكام المديريات ورؤساء المنظمات الدينية. 
قدرت ثروة المفتش بمقدار يتراوح بين عشرة وخمسة عشرة مليون دولار، وكان يمتلك ثلاثين ألف فدان من أجود الأراضي الزراعية. كما خلف ثلاثة قصور كبيرة أثثت برياش فاخر، وزينت أروع زينة، كما ترك ثلاثمائة من الجواري من أجمل فتيات القوقاز وجورجيا، وكميات من الحلي، إلى جانب عدد من الضمانات والممتلكات الشخصية. وقد نقلت جواري المفتش ووضعن في حريم الخديو والباشوات والبكوات، وبالطبع كان للخديو الأسبقية، وقد قيل إن عددا منهن قد بيع سرًا وبعد بضعة أيام تم بيع الأثاث والمجوهرات بالمزاد العلني.