رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة على الدمينى

عن ٧٤ عامًا رحل قبل يومين أحد أجمل الشعراء العرب وأنقاهم، الشاعر السعودى الكبير على الدمينى، صاحب: رياح المواقع، بياض الأزمنة، خرز الوقت، بأجنحتها تدق أجراس النافذة، وفى الرواية له: الغيمة الرصاصية وأيام القاهرة وليال أخرى، هو أحد رموز الحداثة فى الشعر فى الجزيرة العربية، وأسهم من خلال عمله الصحفى كمحرر ثقافى فى أكثر من مكان فى إشاعة مناخ إبداعى مرتبط بالحداثة بمعناها الأشمل، هو من شعراء التفعيلة الذين لم يأخذوا موقفًا حادًا من قصيدة النثر، ربما بسبب موهبته الكبيرة وقدرته على الفرز، كان يرى أن كلمة «الحداثة» تستدعى إرثًا ثقافيًا تأسس على توظيف الحديث النبوى الشريف القائل: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، ولذا فإن الكلمة تصطدم بحاجزها، ولو أن الصدف أسعفتنا كما قال بكلمة تختلف عن هذه، لكان رد الفعل الاجتماعى عليها أقل استثارة وأخف عنفًا تتضمن الحداثة، وفى إحدى تجلياتها، القطيعة مع الموروث، وذلك ما يستفز مخزون الذاكرة التى تنطوى على أجمل منجزات الإرث الشعرى العربى، بما فيها تلك الجذور التى أشار إليها «أدونيس» فى شعر بشار، وأبى نواس وأبى تمام، ويرى الدمينى أن المصطلح فى بعض جوانبه مبنى على مفهوم الهدم الدائم، للأشكال، والقناعات، وانقلاب تقاليد الحداثة على ذاتها- حسب أكتافيو باث، بما يحيل تجربة الكتابة الجديدة إلى مختبر شكلانى تأملى، منغلق على ذاته ومعزول عن بنيته النصية الكبرى المتوفرة على حركة مجتمع وفق شروط الزمان والمكان.

ولأن الحرية ضرب من ضروب مواجهة الضرورة وفهمها أيضًا، فقد كان هناك تواطؤ- غير مكتوب- على أن مضمون الشعار أهم من الشعار، وأن قدر الجغرافيا التى احتضنت المقدس، وقدر السياسة التى قامت على خطاب النص المقدس، قد اجتمعا فى بنية اجتماعية وثقافية، عالية الحساسية إزاء المستجدات، وأن على المثقف الواعى بظروفه الموضوعية، مهما كان حماسه للجديد، أن يتعامل مع الحقائق القائمة كما هى، لا كما يريد لها أن تكون، الدمينى الذى تعرفت على شعره فى البداية عن طريق أصدقائنا المشتركين محمد جبر الحربى وعبدالله الصيخان ومنصور البكر وفايز أبا منذ ثمانينيات القرن الماضى، رجل صادق، يحمل قيم اليسار السامية، ونبلًا إنسانيًا نادرًا ورحابة، جعلت عقله منفتحًا على فضاءات إبداعية ربما تتقاطع أو تصطدم مع قناعاته، قصيدته قريبة من القلب، لا تتكئ على الخلطة الإيقاعية التى تستهدف الطرب لا الحالة الشعرية، لغة بسيطة وعريقة فى الوقت نفسه، شعر إنسانى رغم محليته وارتباطه بقاموس ومفردات بيئته، شعر جسور دون ادعاء بطولة، هو رجل واقعى بالمعنى الأيدولوجى وحالم ومتمرد بالمعنى الفنى، تمامًا كانفتاحه على تجربة قصيدة النثر فى السعودية والنظر إليها فى مدى تحققها لشعريتها وبعدها التجريبى الإنسانى كما كتب الناقد أحمد بوقرى- متسامحًا مع شكلانيتها وتمردها الحاد على قصيدة التفعيلة التى يكتب بها على مدى تاريخه الشعرى، مضيفًا أنه يفرح لكل عمل إبداعى جاد ولكل إضافة حقيقية لتجربتنا الشعرية والسردية والفنية مهما اختلف معها أو كانت خارج حدود مدرسته الأدبية والفكرية، هذا الاتساق فى الموقف الأخلاقى الإبداعى لا يرقى إليه كثير من المشتغلين فى الحقل الإبداعى، لم يشغل على الدمينى نفسه بالتصنيفات وأولوية الريادة وما إلى ذلك من المسائل التى لا يفكر فيها إلا الذين يريدون شغل أوقات فراغهم، الرجل شاعر وكاتب ومحرك ثقافى دعم مبدعين من خلال عمله الصحفى، دفع ضريبة نبله، ولم يطلب غير حريته، يقول فى قصيدة قصيرة له:

«مثلما يحدث فى الموت

إذا غادرت للخارج، فاضت

رحمة الأرشيف والذكرى

وغطت صورتى

ظل الجرائد».. ألف رحمة ونور.