رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد دامية تفضح كذب التنظيم.. «الموصل» يخلّد بطولة «نينوى» ضد داعش ويؤكد أصالة العراقيين

جريدة الدستور

تظل الصورة، خاصة السينمائية، الأكثر جذبا وانتشارا بين الوسائط الفنية والإبداعية٬ فمهما قيل من كلمات وكتبت كتابات إلا أن الصورة السينمائية تظل الأكثر قدرة على التأثير في وعي متلقيها، ولهذا كان مسلسل "الاختيار"، الذي عُرض في شهر رمضان الماضي، وعرض لبطولات الجيش المصري ضد الدواعش والإرهابيين ومن بينهم الشهيد "منسي"- التأثير الأكبر في فضح صورة مدعي الدين الإرهابيين القتلة باسم الدين وتحت رايته.

وتعد قصة بطولة المنسي ورفاقه ضمن آلاف من قصص الأبطال التي استهوت وجذبت مبدعي الفن السابع٬ في تخليد ذكرى بطولاتهم على مختلف العصور والأمكنة والتواريخ، فالأبطال ومن يدافعون عن قيم الحق والخير والجمال٬ من يدافعون عن الحياة ضد الموت والخراب والدمار٬ من يدافعون عن النور ضد الظلام٬ كثيرون، وحكاياتهم لا بد أن تُروى ليس فقط لتظل ذكراهم عالقة في الأذهان٬ وإنما أيضا لننتبه حتى لا نقع في أفخاخ الظلاميين المرة تلو الأخرى٬ وحتى لا تصير آفتنا النسيان.

وفيلم "Mosul" أو "الموصل" بدأت منصة «نتفليكس» في عرضه منذ أسبوعين٬ وهو أول فيلم عالمي باللهجة العراقية٬ وحقق حتى الآن تقييم 7.3 من عشرة٬ على منصة IMDB الخاصة بالأفلام والمسلسلات، وهو الفيلم الذي أنتجه الأخوان "روسو"، ومبني على وقائع حقيقية جاءت في مقال للصحفي الأمريكي «لوك موجلسون»، ونشر في مجلة «النيويوركر» عام 2017، وكتب سيناريو الفيلم ماثيو مايكل كارناهان٬ وأخرجه بمشاركة المخرج العراقي محمد الدراجي.

ينطلق الفيلم بمشاهد بانورامية ترصد وتسجل الخراب والدمار الذي حل بمدينة الموصل العراقية على يد الدواعش الإرهابيين، الذين أتوا من جهات الدنيا الأربع ليحرقوا ويقتلوا ويذبحوا الآمنين٬ ويفرقوا شمل العائلات٬ ويفرضوا الموت والظلام على واحدة من أقدم وأعرق الحضارات التي عرفها التاريخ.

وما تلبث الكاميرا أن تنتقل بسرعة لمشهد آخر، وفردين من الشرطة المحلية يقبضان على تجار مخدرات، فتداهمهم قوة من داعش ويتبادلون إطلاق النيران فيسقط أحد أفراد قوة الشرطة٬ وما تلبث أن تظهر فرقة "نينوى"، إحدى فرق قوات التدخل السريع "سوات" العراقية٬ لتنقذ آخر فردين في قوة الشرطة٬ وكان أحدهما "كاوا" الشرطي الشاب الذي لم يلتحق بالعمل الشرطي إلا من شهرين فقط، وقام بدوره الممثل الشاب "آدم بيسا"، والذي تعكس انفعالاته وتعبيرات وجهه أنها المرة الأولى التي يرى فيها الموت ويكون قريبا منه لهذه الدرجة٬ وهو ما سيتكرر ويتصاعد في مشاهد لاحقة.

بإيقاع لاهث سريع تتواصل مشاهد الفيلم ناسجة قصة الظلام الأسود الذي غطى سماوات مدننا العربية في صورة إرهابيي داعش٬ ووهم دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، حتى إنه يجمع الشامي بالمغربي٬ والنيجيري بالفرنسي٬ والشيشاني بالمصري٬ وهو ما أشار إليه الفيلم في استغاثة أحد الدواعش والفرقة تداهم أحد منازل المدينة التي استولى عليها الدواعش قائلًا: "أنا من باريس..النجدة"، وفى ذلك تأكيد على مسألة عولمة التنظيم وتجنيده العديد من الجنسيات المختلفة بين الشرق والغرب.

ستتقافز الأسئلة في رأسك حول هوية فرقة "نينوى" والمهمات التي تؤديها٬ فهل هي فرقة تابعة للجيش أم للشرطة المحلية في المدينة؟٬ ولماذا وشى أحد أفراد الشرطة، الذي شاهدناه في بداية الفيلم، بالفرقة وأرشد الدواعش عن مكانها ففجروا سيارة أمام المنزل الذي ركنوا فيه لدقائق لمجرد التقاط الأنفاس لمواصلة عملهم؟ ولماذا تدفع الفرقة الرشاوى لأجهزة أمنية أخرى وهي تنتقل من مكان لآخر في المدينة؟٬ وهي الأسئلة عينها التي تراود عضو الفرقة المنضم إليها قبل ساعة "كاوا"، الكردي الحائر، فيبدأ في طرح الأسئلة التي تفكر فيها أنت كمشاهد٬ إلا أنه لا أحد يجيبه٬ لكنه يمضي معهم في مهمتهم النبيلة للدفاع عن الحياة وتطهير مدينة الموصل من الخراب الأسود الذي حل عليها في صورة الدواعش.

ورغم قتامة وبشاعة مشاهد القتل والفزع في الفيلم التي لن تتخلص منها في كوابيسك أو حتى صحوك٬ إلا أن الفيلم لم يخلُ من المشاهد شديدة الإنسانية٬ فحتى المقاتلون وفي ذروة انهماكهم في مهمتهم يستمعون للموسيقى تلك التي لا يعرفها الأشرار ولا الدواعش٬ ويشاهدون مسلسلات التليفزيون.

وكم كان عذبا ذلك المشهد و«كاوا» يتشارك الـ"هاند فري" مع رفيقه في الفرقة٬ قبل أن يستشهد بالسيارة المفخخة٬ ويكاد قائد الفرقة "جاسم"، الذي أدى دوره باقتدار وبراعة شديدة الممثل العراقي "سهيل دباج"، أن ينهار وهو يفقد رفاق السلاح الواحد تلو الآخر٬ إلا أنه يجمع شتاته في ثوانٍ من أجل مهمة الفرقة الأسمى.

يرصد الفيلم حجم الدمار الذي نشره تنظيم «داعش» الإرهابي من خلال مشاهد دامية٬ فمن أول الطفلين اللذين يحملان جثة أمهما ويسيران بها في شوارع المدينة٬ أمهما التي لم تظهر إلا كجثة لا يتبين لنا منها سوى أظافر قدميها بطلائها والتي ذبحها الدواعش لا لشيء سوى أنها وضعت طلاء الأظافر في قدميها، مرورا بافتراق الشقيقين٬ فبينما أحدهما يرحل مع الفرقة لمعسكر الناجين الحكومي٬ يصر الآخر على البقاء كما وعد والديه حتى يدفن جثتيهما، وطوابير المشردين الذين فروا من المدينة هربا بحياتهم٬ حتى هؤلاء لم يسلموا من الموت برصاص الدواعش وهم يجبرونهم على البقاء في المدينة لاستخدامهم كدروع بشرية، ولا تلك الأم التي ركعت على الأرض لتلملم جثة طفلها الذي كان يمسك بيدها وهما يهربان من جحيم داعش.

كما يؤكد الفيلم زيف الشعارات الكاذبة التي يختفى وراءها التنظيم الأكثر وحشية ودموية٬ وما زعم الخلافة الإسلامية إلا أقنعة ووهم يخدعون به من ينضم إليهم٬ فمن مجلات "البورنو" التي يتصفحونها وتمتلئ بها مقراتهم٬ إلى اغتصاب النساء سواء فتيات أو متزوجات، وأزواجهن على قيد الحياة٬ وهو ما تعرضت إليه "حياة" زوجة "وليد"، وأدى دوره الممثل الأردني إسحاق إلياس٬ أحد أعضاء فرقة نينوى، حتى إنه عندما وصل إليها وإلى ابنته أخيرا يجدها حاملًا من أحد الدواعش الذي اغتصبها كما اغتصب منزله وابنته الطفلة الصغيرة، لكنه يحرر شعر ابنته التي فرضوا عليها الحجاب٬ ويحتوي زوجته بنبل الفرسان، فلم يحاكمها على جنينها، فهو يعلم تماما أنها لا حول ولا قوة لها في هذا الجحيم الذي طال بلدا بأكمله.

على أن أعظم ما حمله الفيلم التأكيد على الحضارة العراقية المتجذرة في أهلها٬ وأصالة العراقي وعراقته الحضارية٬ فالعراقي يلتحم بأرضه ووطنه ولا يتخلى عنه٬ وهو ما رصدته لقطة مقربة لأحد أفراد الفرقة في لحظاته الأخيرة وهو يقبض على تراب الأرض قبل أن يستشهد.

وفي كل مكان أو مشهد ظهر فيه قائد الفرقة "جاسم" نجده يحاول أن يرتب المكان وينظفه وهو في مواقف ووقت يفصل فيها الحياة عن الموت مجرد لحظات٬ وربما كان ذلك إشارة إلى هدف الفرقة الأسمى، ألا وهو التأكيد على إعادة البناء والحياة التي هدمها الدواعش من لحظات تحرير المدينة نفسها وليس بعدها٬ وأن العراقيين وحدهم هم من سيحررون بلدهم وليس أحدًا آخر٬ وإن كان مشهد استشهاد «جاسم» وهو يرتب مقر قيادة داعش في المدينة بعدما حررته الفرقة يشير إلى أن الفكر الظلامي والتكفيري الإرهابي في صورة الدواعش أو الإخوان أو السلفيين هو ضد الحضارة والحياة والمدنية٬ وضد النور والبناء وتعمير الأرض، حتى مع استشهاد جاسم ووصول الفرقة لمبتغاها الأخير٬ إلا أن عضوها الأحدث والأصغر "كاوا" الكردي يستكمل المسيرة ويتولى قيادة الفرقة بعدما أنضجته نيران المعارك التي خاضها ودماء رفاق السلاح الذين استشهدوا بجانبه.

تبقى الإشارة إلى أن أبطال فيلم "الموصل" قدموا أداءً فنيا عالميا٬ سواء في الانفعالات وردات الفعل من مشهد لآخر٬ ومن موقف للثاني٬ أو لغة الجسد التي ترجمت الكثير من رسائل الفيلم حتى ولو كانت دون حوار٬ وفي مقدمتهم الفنان سهيل دباج، الذي تنقل بمرونة بين انفعالاته من مشهد لآخر، خاصة تلك المشاهد شديدة الإنسانية، ومنها عندما يصطحب الطفل الذي فقد والديه وحرصه على أن يدفع من جيبه الخاص لإحدى الأسر لترعاه وتحتضنه بين أبنائها، لنستشف أنه فقد جميع أفراد أسرته على يد الدواعش٬ وهو ما يؤكده حديث وليد فيما بعد٬ أو في ذلك المشهد الآخر وهو يضع الثلج على جرح "كاوا" كأنه والده وليس قائده في الفرقة.