رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كأنك تعيش عصرهم.. فتاوى ترصد حياة المصريين والشوام في العصر المملوكي

جريدة الدستور

شهد التاريخ كثيرًا من الفتاوى التي كان لها أثر كبير في المسار العام للحياة في المجتمعات المسلمة، ففي عصر سلاطين المماليك نماذج كثيرة لتلك الفتاوى، وكانت لكل فتوى صداها، وان كان مدى تلك الأصداء يتفاوت بتفاوت مكان المفتي والمتلقين.

حول الفتاوي الدينية وتأثيرها في حركة التاريخ المملوكي، أصدرت ‏المكتبة العلمية للبحوث والدراسات كتاب بعنوان "الفتاوى الدينية وأثرها في قضايا المجتمع في مصر والشام، في عصر سلاطن المماليك " للدكتور طلعت عكاشة.

يعد العصر المملوكي أحد العصور الإسلامية الزاهرة حضاريًّا والناهضة علميًّا وثقافيًّا؛ حيث شهدت مصر وبلاد الشام في عصر سلاطين المماليك نشاطًا ثقافيًّا واسعًا، مهَّدت له الظروف السياسية التي أحاطت بالعالم الإسلامي، في شرقه وغربه، وفي منتصف القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، والتي جعلت منهما مصر والشام مقصد العلماء وطلاب العلم، وخير دليل على ذلك الازدهار وتلك النهضة، ما خلَّفه ذلك العصر من تراث حضاري ضخم في شتى نواحي المعرفة الإنسانية بعامة، وفى مجال الفتوى الدينية بخاصة، والتي أوجدت حلًّا لكثير من قضايا المجتمع السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.

الفقهاء والحياة 

وقد ناقش الكتاب دور الفقهاء في التعامل مع تلك المشكلات، وكيف قدموا الحلول لها، ومن هنا اكتسبت الفتوى الدينية أهمية بارزة في المجتمع، فاهتم المسلمون بها وأكثروا من التأليف فيها، فعظم أمر الفتوى في نظر العامة وصارت لها مكانة بارزة ودور فعال في صياغة حياة المجتمع، وتشكيل صورة الدولة وبخاصة في مصر والشام في عصر سلاطين المماليك؛ حيث كان الناس يفزعون إلى الفقهاء يستفتونهم إذا أشكل عليهم أمر من أمور دينهم أو دنياهم.

ورغم أن البحث تاريخي بالدرجة الأولى، إلا أنه لم يغفل الجانب الفقهي خصوصًا في معرفة الحكم الشرعي عند بعض الفقهاء، عندما وجد أن الضرورة تقتضى ذلك بالقدر الذي ينير البحث، فقد قصد الباحث عدم الخوض في الخصوصيات الفقهية التي ليست من اختصاص البحث.

سلاطين المماليك 

ومعلوم أن الفتوى الدينية لم تختص بقضايا العبادات وما يرتبط بها من مسائل جزئية، من نحو قضايا الصلاة أو الزواج أو غيرها من القضايا التي يكون الإفتاء فيها دعوة إلى تطبيق حكم دون آخر من فرد بذاته، دون النظر إلى مواقف الأفراد الآخرين.

لقد تجاوزت الفتوى تلك المساحة الفردية إلى مساحة القضايا السياسية والاجتماعية والتي مآلها مواقف مشتركة من المجتمع أو الدولة، سواء كانت مواقف سياسية أم فكرية أم اجتماعية أم اقتصادية.

نجح سلاطين المماليك إلى حد كبير في صبغ كثير من الممارسات ـ السياسية بالصبغة الدينية ليؤكدوا أمام الرعية أن حكمهم يستند إلى أساس شرعي من ناحية، وليجعلوا لأنفسهم اليد العليا في الدفاع عن سائر الأقطار الإسلامية من ناحية أخرى، والنظر في كافة أمور الرعية المادية والروحية، فمن هنا طرقت الفتوى الدينية كافة الأبواب إذ أثرت في تطبيق مبادئ النظرية السياسية للدولة، فكان لها أثر ملموس في تولية السلاطين وعزلهم، وكذلك في بث الروح العالية لمقاومة المحتل والغازي،سواء بالنفس أم بالمال لمحاربة الأعداء، كما حدث مع المغول. 

وكذلك أوجدت الفتاوى الدينية حلًّا لكثير من المشاكل الاقتصادية التي واجهت المجتمع المصري والشامي على حد سواء، وكذلك في كافة القضايا الاجتماعية، من محاربة البدع والامراض، وما يتعلق بأهل الذمة، فكانت هذه القضايا عبارة عن نوازل، وقضايا مستحدثة، وجدت بفعل فاعل أو الظروف هي التي أوجدتها، فكان لابد من أخذ أراء الفقهاء والعلماء فيها، ولم يكن للعامة، والخاصة سابق علم بها. 

تقاسيم الكتاب 

وقد قسم المؤلف الكتاب إلى مقدمة، وفصل تمهيدي، وثلاثة فصول، وخاتمة توضح أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

الفصل التمهيد تناول الباحث فيه مصطلح الأثر والفتوى والقضايا من حيث المصدر الذي أخذوا منه، ثم ألَمَّ إلمامًا سريعًا بالفرق بين الفتوى والقضاء وخطورة الإفتاء، وعرض صورة الفتوى في العصر المملوكي وكيفية عرضها، وأماكن الفتوى، ومفتي دار العدل في العصر المملوكي، وألقابه، والمفتين في العصر المملوكي الرسميين وغير الرسميين، ثم ختم الفصل بالعلاقة بين الفقهاء وحكام المماليك.

الفصل الأول تناول "أثر الفتوى الدينية في القضايا السياسية" عرض الباحث في هذا الفصل ثلاثة مباحث: ضم المبحث الأول: "فتاوى تولية بعض ذوي المناصب وعزلهم"، مثل فتوى عزل المنصور عليّ، وفتوى صلاحية أبي الربيع سليمان لتولي الخلافة، وفتوى عزل الكُفَيْري، على حين ضم المبحث الثاني: "فتاوى قتل الحكام"، مثل فتوى قتل الأشرف خليل، وفتوى قتال الظاهر برقوق، وفتوى إراقة دم الملك الناصر فرج بن برقوق، وجاء المبحث الثالت بعنوان "فتاوى المواجهات العسكرية"، مثل فتوى قتال العربان، وفتوى قتال التتار، وفتوى قتال الشيعة.
 
في حين جاء الفصل الثاني "أثر الفتوى الدينية في القضايا الاقتصادية"، تناول الباحث في هذا الفصل عدة مباحث: المبحث الأول: فتوى فرض الضرائب على الرعية لتجهيز الجيش، وبيًن في المبحث الثاني: فتوى استيلاء الدولة على الأملاك المستردة من الصليبيين، وتحدث في المبحث الثالت: عن فتوى زي النساء، وناقش في المبحث الرابع: فتوى تغيير النقد، وذكر في المبحث الخامس: فتوى مواجهة الطاعون، وختم الفصل بالحديث عن المبحث السادس الذي تكلم فيه عن فتوى فرض ضرائب في أموال التجار.

الفصل الثالث فقد جاء بعنوان "أثر الفتوى الدينية في القضايا الاجتماعية"، تناول الباحث في هذا الفصل ثلاثة مباحث؛ حيث ضم المبحث الأول: فتاوى محاربة البدع وأمراض المجتمع، فتعرض لفتوى عدم تسخير الرعية، وفتوى صلاة الرغائب.

على حين احتوى المبحث الثاني: على فتاوى الأوقاف مثل فتوى استبدال الأوقاف، وفتوى عدم إلغاء الأوقاف. والمبحث الثالث: لفتاوى أهل الذمة، من فتوى هدم كنائس اليهود والنصارى، وفتوى تغيير الزي، وفتوى إعادة فتح الكنائس، أما المبحث الرابع فجاء بعنوان فتاوى البيئة، ناقش فيه فتوى قتل كلاب البلد، وفتوى إبطال الوقيد بجامع دمشق. 

أما الخاتمة فقد اشتملت على أبرز النتائج والتوصيات التي انتهت إليها الدراسة.


تعداد مفتو الممالك 

توصل الباحث في الكتاب إلي حصر بأسماء المفتين الرسميين في العصر المملوكي في - مصر والشام إلى ستة وثمانين مفتيًا تقريبا تولوا منصب إفتاء دار العدل من المذاهب الأربعة، منهم ثمانية وأربعون مفتيًا من الشافعية، واثنان وعشرونَ مفتيًا من الحنفية، وستة مفتين من المالكية، وعشرة مفتين من الحنابلة، شغل المفتون على المذهب الشافعي في ولاية إفتاء دار العدل ما يزيد عن - نصف من عدد المفتين.

الكتاب كان في الاصل رسالة ماجستير بعنوان: " أثر الفتوى الدينية في قضايا المجتمع في مصر والشام في عصر سلاطين المماليك (648-923هـ=1250-1517م) " نوقشت بكلية دار العلوم وحصل بها الباحث علي الدرجة بتقدير أمتياز، ومن الكتب التاريخية الجديرة بالمطالعة.