رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا تفشل التنظيمات الإرهابية في إقامة دولة حقيقية على الأرض؟

جريدة الدستور

يحفل التاريخ الحديث والمعاصر، بالكثير من الدعوات لإقامة الخلافة الإسلامية، أو إقامة دولة إسلامية محدودة؛ تمهيدا لإقامة الخلافة العامة، ولكن سرعان ما تفشل هذه المحاولات التي تكون في بداياتها قوية تتمتع بالطموح الجامح، الذي يتصور معه أتباع التنظيم أو الجماعة أن الخلافة قد صارت أمرا واقعا لا محالة.. السطور التالية تلقي الضوء على أهم عوامل نشأة وفشل هذه الجماعات.

نشأة الجماعات المتطرفة

تنطلق جميع التنظيمات المتطرفة من أرضية دينية، ربما تكون مجرد فكرة بسيطة لدى شخص يعجب بها المحيطون به، فتتحول إلى جماعة ذات أساس ديني، وربما يكون انطلاق الجماعة أو التنظيم نتيجة تعرض أعضائها الذين لم تتبلور لديهم فكرة الجماعة لضغوط اجتماعية أو سياسية معينة، نتيجة الصدام بين ما يتبنونه من أفكار وبين المجتمع الذي يعيشون فيه من جانب، وبين الحكومات الرافضة لوجودهم باعتبار أنهم يمثلون خطرا عليها وعلى المجتمع على حد سواء.

وتشترك كل الجماعات الإرهابية مع فرقة الخوارج التي ظهرت في القرن الأول الهجري، وأدى ظهورها إلى الكثير من الفتن التي مازال المسلمون يعيشون في آثارها حتى اليوم.

ويرصد الخبراء أهم عوامل ظهور الجماعات المتطرفة في العصر الحديث والتي يعتبر الفرد العنصر والركيزة الأساسية فيها، ومن ذلك ما رصده رفعت سيد أحمد فيما يلي:

"أ) العوامل النفسية والسيكولوجية: وتدور حول الأسباب التي تضعف ارتباط الشخص بجماعة تقليدية كالأسرة أو أي مؤسسة أخرى وتجعله يرغب في تحديها والمخاطرة بفقدان تأييدها ودعمها له لأنه أصبح يؤمن بقضية غير شائعة بين الناس، وتلك التي تشكل عناصر ترغيب له للارتباط بحركة ما.

ب) العوامل الاجتماعية: ويقصد بها الشروط أو الظروف المحددة التي تؤدي فعلا إلى قيام الحركات الاجتماعية والسياسية، وليس الأسباب التي تشكل بوجه عام مناخا مواتيا لظهور الحركات. فمن الصحيح أن الأزمات الاقتصادية والسياسية، والفقر الواسع الانتشار والاختلالات الحادة في التركيب الطبقي للمجتمع تعد أسبابا قوية لحدوث حركات تطالب بالتغيير – ولكن من الممكن أن توجد جميع هذه الأسباب أو بعضها دون أن تنشأ الحركة فعلا، وذلك لأن هناك مجموعة من الشروط أو المتطلبات المنبثقة من هذه الأسباب الواجب توافرها، لأنها تمثل العوامل المباشرة أو المفجرة لقيام الحركة"(1).

انهيارات سريعة

ورغم ما ذكره سيد أحمد في هذه الدراسة، إلا أن العامل الديني يظل اللاعب الأساسي في نشأة الجماعات المتطرفة، ولأن الجماعات المتطرفة، قد اعتمدت على الفهم المغلوط للنصوص الشرعية خاصة المرتبطة بأمور الحكم والإمارة وقضايا الإيمان والكفر، فلا تلبث أن تقوم لهم قائمة إلا ويظهر ما لديهم من مفاسد فتنتهي الجماعة أو الدولة، وتحل محلها أخرى وهكذا.

والناظر في التاريخ الإسلامي يمكنه أن يلاحظ أن الجماعات المتطرفة لم تقم لها دولة، وإذا قامت زالت من الدنيا بعد أن تفسد في الأرض ومن ذلك ما رواه علي ابن المديني عن وهب ابن منبه أنه قال: 

"قد أدركت صدر الإسلام، فوَالله ما كانت للخوارج جماعةٌ قط إلا فرّقها الله على شرِّ حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقَه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكنَ اللهُ الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبلُ، وقُطع الحج عن بيت الله الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يُقاتل بعضهم بعضا، ويشهد بعضُهم على بعض بالكفر(2).

كما يشهد على ذلك أيضا ما نراه من ظهور مسميات لجماعات صغيرة وكبيرة، منها ما استطاع أن يشكل شبه دولة، ومنها ما اقترب أو وصل بالفعل إلى الحكم في دول أخرى، ومن هذه الجماعات تنظيم القاعدة الذي يعتبر مثالا حيا على تأسيس دولة الخلافة المحدودة خاصة في المرحلة الأولى للتنظيم في أفغانستان الذي كان يحلم أعضاؤه بتأسيس الدولة الإسلامية انطلاقا من بيشاور، وتراجع الحلم فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، إلى أن وجد أملا في إحيائه بأرض أخرى بعيدا عن أفغانستان وما وقع فيها من أزمات ساسية، فانتقل الحلم إلى السودان وانتهت المرحلة الأولى منه عام 1996 بعودة أسامة بن لادن مرة أخرى إلى أفغانستان، وفي الفترة السودانية دعم تنظيم القاعدة الجماعات المسلحة في الجزائر أملا في أن تكون الجزائر منطلقا لحلم الدولة الإسلامية.

ثم تأتي مرحلة تنظيم داعش، الذي ظهر بقوة خلال ما يسمى بالربيع العربي، وأعلن ابو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش الإرهابي عن ظهور الخلافة الإسلامية الجديدة من أرض العراق والشام في خطبته المعروفة في الجامع الكبير بالموصل عام 2014م، وسرعان ما تلاشت أحلام التنظيم الإرهاب بفقد أكثر من 90% من أراضيه التي سيطر عليها، وحملت هذه المرحلة الكثير من الانشقاقات داخل التنظيمات والجماعات المسلحة التي كفر بعضها بعضا ويقاتل بعضها بعضا؛ لينشغل الجميع في الصراعات الداخلية بين الفصائل بعيدا عن الحلم الرئيسي لإقامة دولتهم الإسلامية المزعومة.

ولا يمكن أن نغفل هنا أحلام جماعة الإخوان المسلمين في إقامة الخلافة الإسلامية بحسب رؤيتهم والتي فشلت في إقامتها على مدى ما يقرب من 90 عاما، رغم محاولاتها المستميتة لتحقيق ذلك، لكن الفشل دائما يكون من نصيبها كما حدث في مصر عندما وصلت الجماعة إلى الحكم وسقطت بعد مرور عام واحد على توليها الحكم.

عوامل الفشل

بات من المؤكد الآن أن هذه الأحلام لن تتحقق ولن تقوم لها قائمة، ويمكن أن تلمح أسباب ذلك من خلال اعترافات ومذكرات أعضاء هذه التنظيمات، الذين شاهدوا وعاينوا بأنفسهم ما يجري خلف الكواليس.

فمن أهم عوامل الفشل تسلط الأمراء وديكتاتوريتهم في التعامل مع أعضاء الجماعة أو التنظيم، وهو الأمر الذي يمكن متابعته بوضوح في تنظيم القاعدة كمثال على ذلك، حيث يرى أمراء الجماعة أنهم قد وصلوا إلى مرحلة من العصمة، التي تخول لهم التحكم في مصائر من يتولون أمورهم، ويمكن أن ترى ذلك في شهادة أحد أعضاء تنظيم القاعدة والتي عبر فيها عن مرارة ما عاينه بنفسه، وكشف بوضوح هذا العامل الخطير، الذي يقسم الجماعة من الداخل إلى ما يشبه "الشللية" أو الأحزاب التي يحتكر النخب فيها كل شيء، ويتعاملون باستعلاء مع الآخر.

يقول أبو مالك الفلسطيني:

"العمل الحزبى القائم على أدبيات "الصمت المطلق" وعزل عناصر الجماعة او التنظيم عن العناصر الاخرى فى الساحة، وعن الجماعات التنظيمية الاخرى ولو كانت من نفس القطر، ومن ثمة عمل أكثر قيادات الجماعات وأمراء التنظيمات فى بيشاور على فرض وصاية او نوع من السيطرة يشبه السخرة فى نصوص وأخلاق الادبيات التنظيمية التى تلح دائماً على عضو التنظيم أو عضو الجماعة بالصمت، وتطلب من غير المنظمين فى الساحة الصمت كفضيلة أساسية، وهى كلمة فى أدبياتهم - أحياناً - تكون بمغزى السرية فى العمل الاسلامى واحياناً بمغزى الاستفادة من الساحة على مافيها من أخطاء ومخالفات، لكنهم أرادوا من وراء أدبيات الصمت من الشباب الفار بدينه وعقيدته وحريته الهدوء والسلبية والسكون والخضوع حتى يصل فى النهاية الى جهاز إستقبال وخنوع !"(2).


ثم يشرح الفلسطيني كيفية التعامل مع عناصر التنظيم بعد أخذ البيعة على السمع والطاعة التي يكون فيها الولاء للأمير والجماعة أكثر من الولاء لله ورسوله، فيقول:

"إنهم أرادوا من العناصر التى تبايعهم على السمع والطاعة أن تكون أدوات تنفيذ دون أن تناقش أى جزيئة او تتعرف على العمل قبل التنفيذ او تعترض ، فقد صرح يوماً احد كبار كوادر هذه التنظيمات فى "بيشاور" فى حوار معه من اجل احتواء الشباب فى الساحة داخل التنظيم ، فقال " نريد عناصر نحن نفكر لهم وهم فقط يقومون بتنفيذ ما يؤمرون به دون نقاش!"(3).

ويضيف: "لقد كان الكثير من نخب وامراء ساحة بيشاور رمزاً حياً للتحجر المطلق فى الرؤى والتوجه حتى صارت التنظيمات والجماعات العربية فى ساحة بيشاور بفضل بعض امرائها الحزبيين تعيش طبقية اجتماعية حادة وقومية شعوبية نتنة"(4).

الانقسام والتخوين

وينقل الفلسطيني مشكلة أخرى تنبه لها أبوالوليد المصرى مصطفى حامد فى مقالة له بعنوان "حل تنظيم القاعدة هو الحل الامثل امام بن لادن"، قال فيها:

"لقد فقد تنظيم القاعدة جميع كوادره القديمة التى أقامت التنظيم على أكتافها، ولم يتبق غير عدد محدود جدا فى سجون متناثرة هنا وهناك. عمليا "القاعدة القديمة" لم يعد لها وجود حتى فى وزيرستان أو أفغانستان.... القاعديون الجدد" الآن، هم التيار الأكثر عددا والأكثر فعلا والأعلى صوتا وهم ظاهريا، أو إعلاميا، يشكلون الصف الأول فى مواجهة أمريكا وحلفها الدولى فى عدة مناطق... القاعديون الجدد" المجهولون فى كل شيء، مجهولون ليس للناس فقط، بل حتى لأسامة بن لادن نفسه، فهو ليس الممول كما كان دوما بالنسبة للقاعدة القديمة وحلفائها قبل أحداث سبتمبر. وليس هو الذى يضع لهم الاجتهاد الفقهى الذى يسيرون عليه، وليس هو الذى يحدد الأهداف أو يضبط توقيتات العمل أو يرسم خريطة التحالفات... القاعديون الجدد" هم شيء غامض وربما مخيف بالنسبة للمسلمين قبل غيرهم، لأنه ببساطة ومن المنطقى أن تثار أسئلة مثل هذه:
ــ من الذى يضمن أن يد العدو ليست وراء كل ذلك أو بعضا منه ؟؟.
ــ وكيف يمكن التحقق من هويات هؤلاء الجدد وأفكارهم وأهدافهم وارتباطاتهم السيايسية والتمويلية ؟؟.
قد يكون بعضهم أو كلهم على خير ولكن لم تتح الفرصة لهم لشرح أنفسهم . وليس معلوما كيف تتاح مثل تلك الفرصة؟ وكم من الأثمان ينبغى أن تدفع حتى يتاح لهم ذلك؟ ، وهى أثمان يدفعها المسلمون وقضاياهم فى نهاية المطاف، رغم أنهم (أى المسلمين) يجلسون غالبا فى مقاعد المتفرجين وبعيدين عن مواقع التأثير أو القدرة على كشف كل هذا الغموض الذى لا يتمكن أحد من كشفه ولا حتى بن لادن أو تنظيم القاعدة القديم"(5).

التمويل

ويأتي التمويل ايضا من أهم عوامل فشل هذه الجماعات التي تتحول من مجرد تمويل عملياتها الإرهابية ودفع رواتب عناصرها، والإنفاق على مشروعاتها إلى أطماع فيما يقع تحت ايديها من ثروات الشعوب التي تتحول إلى جيوب قيادات هذه الجماعات، ومن أبرز الأدلة على ذلك الكيان الاقتصادي لجماعة الإخوان المسلمين وكذلك قضية حقول ومصافي البترول التي استولى عليها تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق، وتحول حلم إقامة الدولة إلى صراع اقتصادي بين قيادات التنظيم أو مع الفصائل والجماعات الأخرى التي تتفق مع داعش في حلم الخلافة وتختلف معها في المنهج.

وقد ظهرت خلال الفترة الماضية فضيحة شهيرة لـ "جيش الإسلام" في سوريا، الذي استولى على أموال الشعب السوري لإقامة مشروعات خاصة بقياداته في تركيا بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين. 


كما تلجأ الكثير الجماعات لتوفير التمويل إلى التعامل مع دول وجهات أجنبية لتكون بذلك أداة لتنفيذ مخطاتها والساحة السورية أبرز مثال على ذلك
_________________________
هوامش ومراجع:

(1) رفعت سيد أحمد، ظاهرة الإحياء الإسلامي في السبعينات: دراسة مقارنة لمصر وإيران، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
(2)ابن عساكر، تاريخ دمشق 17/ 478ـ483، والمزي ، تهذيب الكمال، 31/150ـ156، والذهبي، سير أعلام النبلاء، 4/553ـ555.
(2) أبو مالك الفلسطيني"محمد شعبان حسنين"، أحاديث عن بيشاور دوافع وتداعيات 11سبتمبر.
(3) السابق
(4)السابق
(5)السابق