رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أُم وبنت من صنع الإيمان

جريدة الدستور

دائما تأخذ العبادة خطها الرأسى.. تعظيما لله-تعالى-ثم خطها الأفقى.. شفقة على عباده.

وإذا كانت البنت بحكم تكوينها أضعف من أخيها، فهى أحوج إلى مزيد من الشفقة، لتعتدل كفتا الميزان، وذلك بالإنفاق عليهن، والصبر على تصرفاتهن.. ولا يكفى الإنفاق، وطيب الأخلاق، وإنما يتم ذلك كله، وهى حاضرة فى بؤرة الشعور، كما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا..جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين).

والعول هو: القرب بمعنى أن تربية البنت لاتتم (بالمراسلة)، وإنما تكون معنا وفى دفء العواطف، تتنامى شخصيتها ثم تنضج فى حرارتها، لتكون أُمًا بعد أمها، وامتدادا لحياتها، وواضح أن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فى الجنة سلعة غالية، فهى لمن يدفع الثمن، والثمن كما يفهم من مجموع الأحاديث الواردة فى هذا الشأن أن يضم البنت إليه، وفى بيته ينشر عليها من رحمته، وألا يضيق ذرعا بالبنات، مهما كان عددهن، ومهما تعقدت مشكلاتهن، وأن يظل معها وفيا، يزاملها حتى تتجاوز أخطر مراحل العمر(حتى تبلغ).

والجزاء بعد ذلك أن تكون البنت سترا من النار، تزحزحه عنها، ثم لتدخله الجنة بعد ذلك، ليكون فى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحبة فى ذاتها منزلة لو تعلمون عظيم، إن مجرد الرعاية والاستشعار عن بعد لا يكفى من قبل أم تخلت أو أب مشغول، وإنما هى الرعاية المباشرة والشاملة.

ودور الأم مهم لرعاية البنت، لأن الجنس للجنس أميل وبه أنس، فإن للأم هنا دورها المرموق فى تربية البنت، بل وفى تربيتها على أوفى معانى الإحسان، كما يشير الحديث: (فأحسن إليهن)، وإذا كان هناك من يبخس البنات حقهن، قائلا:(إنهن يلدن الأعداء ويورثن الشحناء ويثرن البغضاء)، فإن موقف الأم يشجب هذا الاتجاه، مؤكدا أن البنت (تفاحة القلب وريحانة العين"، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: (دخلت على امرأة ومعها ابنتان لها، تسأل فلم تجد عندى غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبى صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال من ابتلى من هذه البنات بشىء، فأحسن إليهن، كن له سترا من النار).

وفى رواية (فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التى كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبنى شأنها، فذكرت الذى صنعت فقال إن الله أوجب لها بها-التمرة-الجنة).

ومن ملامح بيت النبوة هذا الموقف، ليس فى بيت النبوة إلا تمرة واحدة ومع ذلك كان البيت أسعد البيوت على الإطلاق، إنه البيت الذى تبرع بأخر ما يملك ليحس بأقصى ما يملك إنسان من الرضا، حين آثر به القيمة على متاع زهرة الحياة الدنيا.
 
وإذا كانوا يقولون اليوم: إذا كان الزوج بحرا، فيجب أن تكون الزوجة (سدا) حتى تضع حدا لإنفاق الرجل- فقد كانت عائشة-رضى الله عنها-بحرا إلى جانب البحر، وكانت وهى التى تربت فى بيت أبيها التاجر الغنى، وهو الصديق، كانت نعم الزوجة التى رضيت من الحياة الزوجية بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تبرعت بكل ما فى البيت غير عابئة بما يترتب على ذلك من آثار.

ثم هى تقف إلى جانب الزوج العظيم، تنقل إليه خبر هذه الأم، أى تنقل إليه (نبض الشعب) بآلامه وآماله صادرة فى كل ذلك عن إحساسها العميق بمسئولياتها كأم للمؤمنين، ترعاهم، وتحل المعقد من مشكلاتهم.

ثم تأمل إعجابها بما فعلت الأم، إن مشاعر الإعجاب هنا تذكرنا بنماذج للغرور فى دنيا الناس، تأبى أن يسبقها إلى الفضل غيرها من تلك القوى الشعبية الصاعدة لتظل الفضيلة حكرا على القمة العالية، ولكن المتقون يتجهون الى هدف واحد ومن ثم فهم لا يختلفون أيهم يقدم للحياة أكثر من غيره تماما، كهؤلاء الذين رفض كل واحد منهم أن يشرب قبل أخيه جرعة ماء حتى ماتوا جميعا شهداء الوفاء، قبل أن يموتوا شهداء المعركة.

ولا تزال الأم الشريفة مع حاجتها حافظة للود حامية للعرض، فهى فى عبوديتها أشرف من كل: حر أبيض يسود بخيانته بياض الحياة.