رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صورة مقلوبة: فتوى قانونية تحسم الجدل حول «الشعر الجاهلي» لطه حسين

جريدة الدستور

بمجرد صدور كتاب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين" فى الشعر الجاهلي " توالت البلاغات ضد الرجل وخرجت الفتاوى التي تعتبر أن الكتاب به الكثير من المخالفات الشرعية والأدبية والعلمية والبحثية والفكرية.

وتَلقي النائب العمومي القاضي محمد نور عِدّة بلاغات تفيدُ كلّها بأنّ طه حسين قد تعدي بكتابه (في الشعر الجاهلي) على الدين الإسلامي، أولها بتاريخ 30 مايو 1926 من الشيخ خليل حسين الطالب بالقسم العالي بالأزهر اتّهم فيه الدكتور طه حسين بأنّه ألَّفَ كتابًا ونشره على الجمهور وفيه طَعْنٌ صريح في القرآن العظيم حيث نَسَبَ الخرافة والكذب للكتاب السماوي.

وبتاريخ 5 يونيو 1926 أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومي خطابًا مع تقرير رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب طه حسين، وقال التقرير: إنّ الكاتب كذب القرآن الكريم وطعن علي النبي (صلي الله عليه وسلم). وطالب فضيلة الشيخ تقديم طه حسين للمحاكمة.

وفي 14 سبتمبر سنة 1926 تقدّم عبد الحميد البنّان أفندي عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه أنّ الأستاذ طه حسين نشر ووزّع وعرض للبيع كتابًا طعن وتعدّي فيه علي الدين الإسلامي.

وأثار طه حسين جدلا كبيرًا بهذا الكتاب لتناوله قضايا حساسة مست العقيدة والدين، وأفتى بضلال ما في الكتاب كل من الشيخ محمد الخضر حسين ومحمد فريد وجدي وأنور الجندي والعديد من علماء عصره.

وهكذا يروي دائما أهل الغلو والتطرف صورة واحده من القصة، وهي الصورة المقلوبة للحدث فكما أفتي علماء بضلال طه حسين وشروده عن الفكر القويم، ناقشه من هو متوقع عنه أنه سوف يحاكم طه حسين وكتابه ويضعه على المقصلة.. إنه النائب العام نفسه القاضي محمد نور.

سجل التاريخ فتوى ولكنها هذه المرة فتوى ليست شرعية ولكن فتوى قانونية، فتوى قوية العبارة، متينة البيان، محكمة الصياغة، مكتوبة بلغة قانونية، إنها فتوى النائب العام محمد نور الذي حقق مع طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" وأخرج تقريرا بذلك.

أفتي النائب العام محمد نور بأن القضية ليست جنائية وأنها قضية غير عادية وأن الحكم فيها يكون تبعا للمناظرة الفكرية والسجال البحثي والعلمي والقانوني.

وهنا أجلس القاضي والنائب العام طه حسين مجلس المناظرة، فأفحم طه حسين وأسكته في مواطن كثيرة، لكنه لشدة احترامه لآراء الآخرين وعدم تزمته، توصل إلى أن المؤلف طه حسين وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر … لذا حفط النائب العام الأوراق إداريًا فكانت تخريجات مبهرة وحاذقة وذكية، تدل على حذق صاحبها وفكره الواسع وقراءاته الجيدة.

وحسب سامح كريم فى كتابه «معارك طه حسين الأدبية والفكرية»، قال نور بك: «أنكر المؤلف فى التحقيق أنه يقصد الطعن على هذا الدين، وذكر أنه ورد فى كتابه على سبيل البحث العلمى من غير تقيد بشىء، وأنه لا يرتاب فى وجود إبراهيم وإسماعيل، ولا فيما جاء عنهما فى القرآن، ولكنه كعالم مضطر أن يذعن لمناهج البحث، فلا يسلم بالوجود العلمى التاريخى لإبراهيم وإسماعيل»، ويضيف نور بك: «العقاب على الخطأ فى الرأى مكروه».

نصح النائب محمد نور رئيس نيابة طه حسين قائلا "المؤلف قد سلك طريقًا مظلمًا فكان يجب أن يسير علي مهل وأن يحتاط في سيره حتي لا يضل ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة".

تأثر طه حسين بعدها بعدة أعوام بهذا الكلام وكتب يقول في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه فى الأدب الجاهلي المؤرخة في 11 مايو 1927 ما يأتي (هذا كتاب السنة الماضية حُذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيفت اليه فصول، وغير عنوانه بعض تغيير، وأنا أرجو أن أكون قد وفقت في هذه الطبعة الثانية إلى حاجة الذين يريدون أن يدرسوا الأدب العربي عامة، والجاهلي خاصة، من مناهج البحث وسبل التحقيق في الأدب وتأريخه).

تصدت فتوى قانونية لفتوى شرعية، ولأن الجميع يخرج من مشكاة، فمصادر القانوني هي الشريعة الإسلامية، لكنها هنا نجحت بالتي هي أحسن، ولم يعرف عن النائب العام محمد نور أي علاقة بالفكر الإسلامي وربما هي المرة الأولي والاخيرة التي يعمل على نقد كتاب وفتوى فكرية إلا أنه ترك أثرا كبيرا لحرية الفكر والعقيدة التي أثرت في طه حسنين نفسه فيما بعد، وجعلته يكتب في الشعر الجاهلي بطريقة تختلف عن طريقته التي كتب بها المرة الأولي الكتاب متأثرا بصراعه مع الأزاهرة ورجال الدين.

تلك كانت صورة أخري لا يعرفها أهل الغلو والتطرف عن طه حسن ولا عن النائب العام محمد نور تصلح لتكون معيارا للحكم علي الأشياء وعدم التسرع فى الحكم على الأمور والحكم بالكفر والردة بمجرد الأقوال التي من الممكن أن يرجع صاحبها عنها فيما بعد.