رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تهمة الإرجاء وإخفاء أحاديث الشفاعة سلاح التكفيريين لتنفيذ جرائمهم

تعبيرية
تعبيرية

يبدأ الانزلاق في مستنقع الجماعات الإرهابية من الانحراف في فهم مسائل العقيدة، الذي هو منشأ كل ضلال، ويكفي أن تعرف أن ظهور فرقة الخوارج، كان من منطلق عقدي، وبدأ بتحريف مفهوم الإيمان الذي أدى فيما بعد إلى تفريعات أخرى، كان من نتيجتها تكفير الصحابة واستباحة دمائهم.

وفي العصر الحديث تابع أحفادهم السير على هذا المنهج، وبنوا عليه أشياء أخرى أكثر فظاظة، وأشد فظاعة، ويبدأ تحريف العقيدة لدى الجماعات والفرق المنحرفة، من تحريف مفهوم الإيمان واعتبار أنه شيء جامد لا يتحرك في قلوب العباد، لا بالزيادة ولا بالنقصان، فالشخص عندهم إما مؤمن كامل الإيمان، وهو من اتبع سبيلهم وسار على طريقتهم، أو كافر منعدم الإيمان بمجرد الوقوع في معصية واحدة، أو التلبس بكبيرة من الكبائر، أو فارق جماعتهم، وبذلك يكون مخلدا في النار لديهم.

انسحب تحريف مفهوم الإيمان بالتالي إلى فروع عديدة منها مسألة الشفاعة، من منطلق أن كل بدعة في الدين لابد أن تقود إلى غيرها، وقد سدت نظرتهم إلى مسألة الشفاعة أيضا كل باب للتوبة أمام العباد، فأنكروا النصوص الشرعية الواردة فيها وأولوا ما أثبتوا منها عن مقصد الشرع، بما يتوافق مع منطقهم التكفيري، الذي يحكم على المسلمين من أهل الدنيا بالكفر والخلود في النار ولا يعذر بالجهل.

ظهور الإرجاء

لما كان هذا الغلو في تطبيق مفهوم الكفر، وإنكار الشفاعة على العباد، ظهر في المقابل نوع آخر من التطرف ليرد على ذلك، وهو التساهل في إثبات الإيمان، بظهور المرجئة، ومن أهم أقوالهم إخراج العمل من مسمى الإيمان، وهو ما يخالف منهج أهل السنة والجماعة والثابت من النصوص الشرعية التي تؤكد أن الإيمان (قول وعمل) أو تصديق القلب، وقول اللسان والعمل بالجوارح والأركان، أما المرجئة فقد انقسموا في ذلك إلى نوعين، وهما:

أولا: مرجئة الفقهاء:

اختلف العلماء في اعتبارهم من أهل السنة أم لا، وهم الذين يقولون إن الإيمان قول فقط، أي بمجرد الإقرار بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" صار العبد مؤمنا دون أن يأتي بعمل، ومن أشهر مرجئة الفقهاء من أهل السنة "الأحناف" أتباع أبي حنيفة رحمه الله، وهم يقولون إن العمل شرط كمال، وبالتالي تكون أركان الإسلام كلها من مكملات الإيمان، ويكون العبد مؤمنا حتى إن تركها، ورغم حرصهم على الإتيان بأركان الإسلام إلا أنهم وقعوا في خطأ التساهل في أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة، وبالتالي فهم يعتبرون أن العمل ليس ركنا من أركان الإيمان، كما هو الثابت في الكتاب والسنة، ونظرا لحرصهم على عدم التهاون في أركان الإسلام، فقد كان خلافهم مع أهل السنة في ذلك مجرد خلاف نظري، وهو ما جعل العلماء يعدونهم من أهل السنة.

ثانيا: مرجئة الجهمية أو مرجئة الفلاسفة

والنوع الآخر من المرجئة، وهم مرجئة الجهمية، أو مرجئة الفلاسفة، وأول من قال بقولهم الجهم ابن صفوان الذي تنسب إليه فرقة "الجهمية" المنحرفة، التي تمتد جذورها إلى إبان ابن سمعان ابن عم لبيد ابن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة، وهؤلاء يقصرون الإيمان على شيئين أكثرهما غلوا هو أنه مجرد علم القلب فقط، ومنهم من يقول إنه علم القلب، وتصديق القلب، وبالتالي فإن الإيمان لديهم لا يخرج عن حيز القلب إلى العمل بمقتضاه، فمن كان لديهم مصدقا أو مقرا بقلبه كان كامل الإيمان، وزعموا أنه "لا تضر مع الإيمان معصية"، وبالتالي فكل من صدق فقط بقلبه بوجود الله والإيمان به كان كامل الإيمان، وكان إيمانه كإيمان الأنبياء والملائكة، دون أن يأتي بأي عمل أو يعطي أمارة تصدق ذلك بفعل شيء من التكاليف الشرعية.

أصل النزاع

إذن فقد صرنا بين فصيلين متطرفين يتنازعان تعريف مفهوم الإيمان، أحدهما يجعله في أضيق الحدود، ويغالي فيه، ولا يرى إلا الإيمان الكامل، الذي لا وجود له سوى لدى الملائكة والأنبياء المعصومين فيما بلّغوا عن ربهم، فمن كان بهذه الصورة لديهم فهو مؤمن، وأي معصية بعد ذلك تقذف بصاحبها إلى النار وتجعله خالدا فيها، وهو قول الخوارج، رغم استحالة عدم خلو أصحاب هذا الاتجاه من المعاصي كغيرهم من البشر، ولكنهم قصروا الإيمان الكامل على كل من دخل في طريقتهم وسار على منهجم، فأنكروا الشفاعة ومنعوا العذر بالجهل.

أما الفريق الآخر فقد جاء ردا على هذه الرؤية فتساهل أصحابه لأبعد الحدود، أيضا وساروا على طريقة أصحاب الاتجاه الأول في أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولكن من منظور مختلف وهو أن الجنة محجوزة لا محالة لكل من علم أو أقر بالإيمان دون أن يأتي بالعمل.

ظهور جديد

وفي العصر الحديث، ظهرت الجماعات الإرهابية التي تسير على منهج الخوارج فكفروا المسلمين جميعا من غير المنتمين إليهم، وكانت تهمة الإرجاء هي أبرز الاتهامات التي يوجهونها لمعارضيهم خاصة من العلماء الذين فضحوا منهجهم، وأثبتوا الشفاعة وقالوا بالعذر بالجهل، وقد ظهرت مؤلفات لأصحاب هذا الاتجاه تحمل عنوان "مرجئة العصر" ونحوها ومنها كتاب "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي المعاصر" للداعية الإخواني القطبي الدكتور سفر الحوالي، و"تبصير العقلاء بتلبيسات أهل التجهم والإرجاء"، وإمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر، لأبو محمد المقدسي وغيرها الكثير.

واللافت للنظر في أصحاب هذا الاتجاه، أنهم يعتبرون جميع المسلمين ممن لا ينتمي لطريقتهم من المرجئة، خاصة العلماء الذي أنكروا عليهم، إنشاء الجماعات، وتكفير المسلمين حكاما ومحكومين، وطريقتهم في الجهاد التي تخالف المنصوص عليه في الكتاب والسنة، وبينوا لهم شروط الجهاد الصحيحة.

إلى أن ظهرت طائفة جديدة من قلب هذا الفصيل ضيقت على المسلمين أمور الآخرة، كما ضيقت عليهم أمور الدنيا، وأنكرت الشفاعة للمسلمين، باعتبار أنه لا توبة لمن لم ينضم لتلك الجماعات في الدنيا ولا شفاعة له في الآخرة، فأنكروا الثابت الصحيح من أحاديث الشفاعة، وأولوا ما أثبتوه منها، واشترك في ذلك السرورية مع أدبيات القاعدة والخوارج، وتابعهم فيها الحدادية الذين يظهرون الانتماء إلى المنهج السلفي.

استخدم هؤلاء مسألة جنس العمل، وساروا على منهج الخوارج في النظر إلى علاقة العمل بالإيمان لتكفير المسلمين بمجرد عمل المعصية، ثم توصلوا بذلك إلى مسألة العذر بالجهل، المتعلقة بنصوص الشفاعة الثابتة في الكتاب والسنة، التي جاءت رحمة للعاملين، فمنعوا المسلم العاصي حتى الذي يجهل أنه على معصية من استحقاق شفاعة رب العالمين يوم القيامة، وأغلقوا باب الرحمة الواسع الذي فتحه الله لعباده بهذه النصوص، وكتم أصحاب هذه المنهج الكثير من أحاديث الشفاعة، واعتبروا الآخر من المتشابه، رغم اتفاق العلماء على ما فيها من أدلة على رحمة الله ومغفرته للمؤمنين، وإثبات لاسمه العفو الرحيم الغفور، وقد دلت النصوص الشرعية على أن الله تعالى يخرج من النار برحمته ومغفرته من لم يعمل خيرا قط ، لما معه من التوحيد والإيمان به، ومنها ما رواه مسلم في صحيحه في الحديث الطويل:

"...ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا. وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة".
(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم:183)