رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«خطاب الكراهية والعنف».. لماذا يهاجم المتطرفون المشاهير عند وفاتهم؟

أرشيفية
أرشيفية

رغم أن الدين الإسلامي، دين احتواء ولا يدعو إلى التهميش؛ إلا أنه خلال السنوات الأخيرة طفت على السطح ظاهرة جديدة من قبل الجماعات المتطرفة، تتمثل في التطاول على المشاهير غير المنتمين لها، وتزداد حدتها إذا كانت الشخصية المستهدفة من غير المسلمين، ورغم أن هذه الظاهرة كانت موجودة بشكل غير معلن لدى الكثير من الجماعات الإسلامية، لأنها لم تكن تجد المجال في السابق لإظهارها بذلك الشكل الواسع الذي باتت عليه الآن بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.

الأصول والجذور

المشكلة تبدأ من عدم الفهم السليم لمفهوم "الولاء والبراء"، الذي أدى إلى إنكار التعايش الإنساني مع أصحاب الملل الأخرى من غير المسلمين، وليت الأمر وقف عند ذلك الحد، بل امتد أيضا إلى نبذ التعايش مع المسلمين من غير المنتمين لتلك الجماعات، من الذين شملتهم تلك النظرة الخاطئة لمفهوم "الولاء والبراء"، وهو ما أدى إلى رمي عدد من مشاهير المسلمين بالكفر، فقط لأنهم لا يؤمنون بأفكار تلك الجماعات، بل والجزم اليقيني بمصيرهم إلى جهنم في الآخرة، واتهام المسلمين الذين ينكرون عليهم ذلك بالإرجاء، ونقص الدين رغم رسوخهم في العلم.

الأسبوع الماضي أثارت وفاة عالم الفيزياء البريطاني ستيفين هوكنج، هذه القضية، التي تتجدد مع وفاة أي من المشاهير من غير المسلمين، أو المسلمين غير المنتمين للجماعات، وبدأت موجة من السب واللعن للرجل، كتلك التي نراها عند وفاة أي من السياسيين المسلمين المعارضين للجماعات خاصة جماعة الإخوان التي تتسارع في نشر الآيات القرآنية التي تؤكد فيها أن الميت من أهل النار مخلد فيها لا محالة.

اللهم احشرك معه

"اللهم احشرك معه" كانت العبارة الأبرز على ألسنة أتباع التيارات المتطرفة، لكل من عبر عن رأيه في الرجل "غير المسلم"، الذي لم يختلف الحال كثيرا معه عن غيره من المسلمين الذين يعارضون أصحاب هذه التيارات، وبمجرد ذكر فضل شخص منهم فيما أسداه من خدمة للبشرية، تبدأ معها حملات التطاول، رغم أن الإسلام يلح على إعطاء كل ذي حق حقه، وإسناد الفضل لأهله حتى ولو كانوا كافرين.

تؤكد عبارة "اللهم احشرك معه"، النزعة التكفيرية لدى صاحبها الذي يبدو كأنه قد سبق الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات في معرفة الغيب، وقد جر أصحاب هذا الفكر إلى إنكار الكثير من نصوص السنة أو تأويلها عن مراد الشرع منها مما دفع طائفة منهم إلى إنكار أحاديث الشفاعة.

وإذا كان الحديث عن شخص ميت من المشاهير، يتخير أتباع هذه الجماعات أسوأ صورة له، أو يركبون صورا له في أوضاع سيئة باستخدام برامج الصور، ومنها ما يجعلون بها الصورة باهتة الإضاءة ليظهر الظلام على وجه الخصم ويكتبون عليها {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] .

وقد زادت ظاهرة التطاول على المشاهير بشكل ملحوظ بعد ثورة 30 يونيه مع الخصوم السياسيين للجماعات المتطرفة، وشملت المسلمين وغيرهم، ومنهم الكاتب الراحل احمد رجب والفنان مصطفي حسين وابوالعز الحريري والصحفي عبدالله كمال والشاعر احمد فؤاد نجم، والكاتب الصحفي صلاح عيسى وعبدالله الأبنودي وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وغيرهم من الذين توفاهم الله على غير ملة هذه الجماعات، ومن أشهر الذين يتعرضون لهذه الهجمات من غير المسلمين وهم على قيد الحياة من المشاهير الذين لا دخل لهم بالسياسة طبيب القلب المعروف الدكتور مجدي يعقوب.

ومع ذلك فإن نصوص الشرع ترد على هؤلاء، فعن جندب بن عبد الله البجلي، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى : من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك". (رواه مسلم).

خلط المفاهيم

كما ينتقل الفهم الخاطئ لعقيدة الولاء والبراء لدى الجماعات المتطرفة إلى عدم فهم مشيئة الله الكونية، وحكمته في خلق المؤمنين والكافرين ووضع الشرائع التي بعث بها جميع رسله وأنبيائه، لتضمن التعايش السلمي بين جميع البشر في دار الدنيا، وتحقق حكمة ابتلاء المؤمن بالكافر والكافر بالمؤمن، وهي تكاليف شرعية تظهر في قمة إعجازها وسماحتها في الدين الإسلامي، الذي وضع أرقى تصور للوجود والحياة.

ينطلق هذا الفهم المشوه من قاعدة الخلط بين أوامر الله وتكاليفه للتعامل مع "الكافرين المحاربين" في وقت الحرب مع التعامل مع المسالمين منهم، إضافة إلى تكفير من لم يكفره الشرع من المسلمين وإنزال أحكام الكافرين المحاربين عليهم، رغم أن الإسلام قد فرق بين المحارب المعتدي من الكافرين، وبين المسالمين منهم ووضع أحكاما للتعامل معهم، لم تشهد أي حضارة في العالم رقيا مثلها بشهادة القدماء والمحدثين.

شهادة التاريخ والشرع

ثبت في التاريخ الإسلامي أن النبي لم يأمر بإكراه أحد على الدخول في دين الله، وفي الوقت نفسه لم يتعامل بجفاء مع غير المسلمين، وأكد العلماء أنه لا يجوز إلزام أحد بأحكام الإسلام كرها عنه.

وقد ذكر ذلك ابن قدامة المقدسي في كتابه (المغني، الجزء 12، ص: 291) قال: "وإذا أُكرِه على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يَثبُت له حُكْم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعًا".

كما شهد المستشرقون بهذه القاعدة الحضارية العظيمة التي تؤصل لأعظم مفاهيم الرقي الإنساني في تعامل الإسلام مع غير المسلمين المقيمين بينهم، ومن ذلك ما ذكره "ول ديورانت" في كتابه الشهير (قصة الحضارة، الجزء الثالث، ص: 130- 131) قال:

"لقد كان أهل الذمة (المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون) يتمتَّعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكانوا يتمتَّعون بحُكْم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم".

كما تؤكد المستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه" أن المسلمين الأوائل كان لهم الفضل في إنقاذ الكثير من الشعوب المغلوبة على أمرها من التعصب والممارسات الوحشية التي كانت تمارس ضدهم في كتابها (شمس العرب تشرق على الغرب، ص: 364)، فتقول:

"العرب لم يَفرِضوا على الشعوب المغلوبة الدخولَ في الإسلام؛ فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قَبْل الإسلام أبشعَ أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سُمِح لهم جميعًا دون أي عائق يَمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترَك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يَمسُّوهم بأدنى أذى، أوَليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مِثل تلك الأعمال ومتى؟ ومَن ذا الذي لم يتنفَّس الصُّعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ، وبعد فظائع الإسبان واضطهاد اليهود؟ إن السادة والحكام المسلمين الجُدد لم يزجوا أنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل ولا يَظلِموننا ألبتَّة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنفٍ".

الإسلام والاعتراف بجميل أهل الفضل من الكافرين

ويعترف الإسلام بجميل أهل الفضل من الكافرين، وهو من السنن الإنسانية الراقية، التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له" ومطعم ابن عدي كان من المشركين ومات ولم يدخل الإسلام، لكنه أسدى جميلا للنبي صلى الله عليه وسلم في الطائف بإجارته من المشركين.
(انظر: سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في المن على الأسير بغير فداء، حديث رقم: 2689، رواه البخاري، في صحيحه حديث رقم: 3139).

كما كان السلف أيضا أكثر فهما وتطبيقا لهذه القاعدة الإنسانية الجليلة التي تدعو للاعتراف بالجميل وفضل الكافرين، بعيدا عن الحكم عليهم وعلى منازلهم في الآخرة.

قال ابن حبان في كتابه (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص352- 353) :
"كان إبراهيم بن أدهم- رحمه اللّه تعالى- إذا صنع إليه أحد معروفا حرص على أن يكافئه، أو يتفضّل عليه. قال صاحب له: فلقيني وأنا على حمار، وأنا أريد "بيت المقدس"، جائيا من "الرّملة"، وقد اشترى بأربعة "دوانيق" تفّاحا وسفرجلا وخوخا وفاكهة فقال لي: أحبّ أن تحمل هذا. وإذا عجوز يهوديّة في كوخ لها فقال: أحبّ أن توصّل هذا إليها، فإنّني مررت وأنا ممس، فبيّتتني عندها فأحبّ أن أكافئها على ذلك".