رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسالة الأزهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية(1/6)

جريدة الدستور

الرسالة الأولي
نفق الجماعة المظلم


الجماعة تحتكر دور البطولة المطلقة في تمثيل الإسلام
الإخوان تستخدم كلمات أثيرة مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، وحقوق المرأة، والمواطنة
التنظيم ينظر لحركة التاريخ بمنظور الغالب أو المغلوب
خطاب الإخوان سقط في نزعة استشراقية معكوسة
كل من يقف خارج دوائر الجماعة تعتبره في مواجة معها
البنا استشهد بفاشية موسوليني كمبرر يُشرِّع لفاشية إخوانية بكلمة إسلامية
 تجارب الجماعة العملية محدودة وتصورها لعالم انه منخرطا في مؤامرة ضد الإسلام


يقوم خطاب جماعة الإخوان المسلمين على ثنائية فكرية متضادة بين الحق والباطل، والإسلام والكفر والصديق والعدو، فهي تؤكد دومًا أنا أو الشيطان.. فالجماعة تمثل الإسلام والحق والذات الخيِّرة في قطبية متقابلة لا يلتقي طرفاها. فخطاب الجماعة يجعلك على مفترق طرقفي لحظة اختيار دائم، فأنت مهدد دوما بالانزلاق إلى طريق الغرب المشيطن قولا واحدا متى ابتعدت عن طريقهم، فالطريق - كما رأى الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين- طريقان لا وسط بينهما "أما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمه ومناهجه وعقيدتنا أن الطريق الأول – طريق الإسلام، وقواعده وأصوله - هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يُسلك وأن تُوجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة."

بهذا الخطاب الإخواني يبدو مفهوم الإسلام العَقَدي والتعبدي مختلطا بمفهوم حضارة إنسانية أُنتجت في دولة يحكمها المسلمون، فيصبح المنتج البشري - من منظورهم- في ظل حضارة المسلمين هو ملك ديني إسلامي لا يقل في ربانيته وخصوصيته عن العقيدة والعبادة الإسلامية، ويأتي الغرب -وفق هذا الفهم- في صورة اللص المعتدى، والسارق المارق الذى سلب الأمة حضارتها الدينية، فهي –من منظورهم- جزء أصيل لا ينفصل عن دين هذه الأمة، وكأن الحضارة الإسلامية نتاج إلهي وليس بشريا، متجاهلين طبيعة الحضارات الإنسانية القائمة على التلاقح والتبادل، فالحضارة الإسلامية نتاج عقل عربي وغير عربي، ومسلم وغير مسلم، وسني وشيعي، نتاج نقل وترجمة عن حضارات قديمة أُنجزت إلى حاضر كان يتكوّن، ويتشكل أضافوا إليه في عملية تبادل وتلاقح حضاري لا يتوقف ما دامت الإنسانية، فهي سنة كونية لا عيش لدولة ولا حياة لحضارة إلا باتصال وتبادل مستمر.


ويختزل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الثقافة والعلم والمشروع الاستعماري الغربي كل ذلك في كلمة واحدة هي الغرب الذي يحتفظ بدور ممثل الشيطان في معركته المتجددة مع الإسلام من منظور الجماعة التي تحتكر دور البطولة المطلقة في تمثيل الإسلام تمثيلا حصريا في ذاك الصراع الوجودي.

فالغرب في خطاب الجماعة لا يخرج من دائرة العدو المتربص والمتآمر الحاقد، قد تلجأ إلى مهادنته، وليس مصالحته، لأن ما بينهما حرب تعرف المهادنة، وليست خصومة عارضة تنتهي إلى صلح، ومثل هذا الالتفاف مشروع عند بعض المعاصرين من قيادات جماعات العمل السياسي، إذ لا مانع عندهم من مجاراة الغرب بأداء سياسي حزبي تروج الجماعة من خلاله كلمات الغرب الأثيرة مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، وحقوق المرأة والمواطنة مصطلحات لم تفكر جماعة مثل الإخوان المسلمين يوما أن تشرحها مجرد شرح لقواعدها التنظيمية مكتفية باختزال ثقافتهم في كلمة إسلامية، يُلقنون قواعدهم تفاصيلها من شروح رسالة التعاليم للبنا، وما كتبته بعض الأقلام الموثَّقَة عند قيادة الجماعة، لما وجدته في نتاج هذه الأقلام من غَيْرة وليست موضوعية وعاطفة وليس فكرا ولفظية إسلامية رنَّانة بعيدا عن النظر للمضمون ما يؤهلهم لأن يكونوا "كُتّاب الصحوة الإسلامية".

 فخطاب الجماعة يُخرج الصراع مع الغرب من أبعاده السياسية والاقتصادية والاستراتيجية ليجعل منه صراعا وجوديا بين الأديان، ويؤجج الصراع بكلمات الإسلامية والصليبية، ويسكبون زيت الاجتزاء النصي لحوار هنا أو لقاء هناك؛ لتظل نار الصراع متوهجة، فالمشكلة - من منظورهم - التي تمنع نجاح دول المسلمين ليست كامنة داخلهم تعليما وعملا وانضباطا مهنيا وأخلاقيا ومواجهة للفساد وغيرها من الفروض الغائبة، فالمشكلة - من منظور الجماعة - هي المؤامرة من الكفار على الحركة الإسلامية، "فالقوى المعادية للإسلام تبذل جهودًا جبارة مستميتة دون قيام هذه الدولة في أي رقعة من الأرض، وإن صغرت مساحتها وقل سكانها... وحين تقوم حركة إسلامية ناجحة، يُخشى أن تتحول إلى دولة، سرعان ما توجه إليها قوى الكفر ـ العالمية والمحلية ـ ضرباتها المحمومة، من تشريد وتجويع وتعذيب وتقتيل، وتشويه وتمويه، ولا تكاد تفيق من ضربة حتى يباغتوها بأخرى، لتظل دائمًا في شغل بآلامها عن آمالها، وبمتاعبها عن مطالبها، وبجروحها عن طموحها... قد يسمح الغربيون بدولة ماركسية، وقد يسمح الشيوعيون بدولة ليبرالية، ولكن لا هؤلاء، ولا أولئك يسمحون بدولة إسلامية صحيحة الإسلام."

 ولا يخفى أن تديين الصراع يُدخل أبناء الجماعة أكثر وأكثر في نفق التنظيم، ويوثق من تلاحم أبناء الصف الإخواني وحدةُ الشعور بالكراهية والعدائية للغرب وأنصاره المحيطين بالجماعة، وتُوجد الجماعة لدى قواعدها دافع داخليا للانعزال عن هذا المحيط الملوث بالأفكار والأشكال الغربية، وهذا يُمد التنظيم بقدرة ذاتية على الصمود والمواجهة مدعومًا بأقوى سبب للبقاء، وهو استعادة الدين الذى يخوضون معركته، ويستشهدون تحت رايته،فكلما ازداد الضغظ تقاربت أجزاء التنظيم وازداد تماسكه، ويظل النسق الفكري المُشكِّل لوجدان وعقل أبناء الصف الإخواني نسقا دينيا ملخصه: "نخوض معركة الإسلام أمام عدوه اللدود الغرب" وتُغيب كل المفردات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عن أبعاد المواجهة، وتظل كلمة دينية الصراع هي المشكِّلة لفكر ووجدان أبناء الصف الإخواني.

 وتنظر الجماعة - وفق فكرة الصراع بين الإسلام والغرب - إلى حركة التاريخ بمنظور الغالب أو المغلوب، فالتاريخ في عصوره المتعاقبة يمثل كل عصر فيه كتلة واحدة إما شرقية إسلامية، وإما غربية لا إسلامية، فيرى البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أن "قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور، ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد شرقية قوية يظللها لواء الله، وتخفق على رأسها راية القرآن، ويمدها جند الإيمان القوى المتين؛ فإذا بالدنيا مسلمة هانئة."


وتتسع دائرة الصراع، وتتنامى المواجهة على نحو مستمر فكل من يقف خارج دوائر الجماعة فقد اختار موضع المواجه لها، فالجماعة لا تخوض صراعا مع الغرب فحسب بل والأنظمة الحاكمة التي تراها حلفاء تابعين للغرب وكذلك المؤسسات الدينية الرسمية، ففكر الجماعات فكر اتهامي مسكون بأشباح التآمر العالمي، فدوما الإسلام يتعرض – في نظرهم- لمؤامرة كونية كبرى؛ ليس من الغرب المتهم الأول بل من شركائه في الجريمة والمتمثلين في الأنظمة العربية الحاكمة التي تصبح في نظرهم ليست أنظمة شرعية تحمى قانونا عاما يحفظ كيان الدول، ويصون مؤسساتها من انفعاليات خطابية يغيب عنها أي شكل إجرائي لبناء الدول، وتتحول العلاقات الدولية والمصالح الاستراتيجية بين الأنظمة العربية والغرب إلى مخططات مشتركة للنيل من الإسلام، فكل أشكال العلاقات الدولية اختزلت في عقل الجماعات إلى علاقة دينية بين الإسلام والكفر في صراعه المتجدد، وتحول الصراع إلى "عادات إسلامية تحارب عادات أعجمية في كل نواحي الحياة."

 ولا يقف الأمر بالجماعات عند هذا الحد في الصراع، فدائرة المواجهة في اطراد تزايدي، فهناك أعوان الغرب من المسلمين من دعاة الإسلام الإصلاحي (التنويرين) من أمثال: عبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومالك بن نبي ومحمد جابر العبيدي وغيرهم ممن دعا إلى الحوار وإمكانية التبادل الحضاري مع الغرب، فهؤلاء خصوم تعمل كل جماعة على حماية المشروع الإسلامي من خطرهم، فيرى أبو الحسن الندوي وسيد قطب في الخطاب الإسلامي الإصلاحي استلابا بروح التجديد والتغريب، فتشن الجماعة هجوما على الإصلاحيين، وتدخل معهم في صراع لا يقل عن صراعهم الأبدي مع الغرب، فموقفهم من الإصلاحيين ليس موقفا من الشريك المتحاور بل موقف من العدو المتآمر.

فسقط خطاب الإخوان وما انشق عنها من جماعات إسلامية - على حد تعبير جمال باروت - في نزعة استشراقية معكوسة، فإذا كان الإسلام وقع ضحية لنيران بعض الدراسات الاستشراقية التي نالت منه، فقد قامت الجماعات بالدور نفسه مع كل محاولة فكرية إصلاحية، فالجماعة تنهض على فكرة أنها تمثل حصريًا الكيان الإسلامي النقي الساعي لتطهير الإسلام ممن يُعرفون بدعاة الحوار والتبادل والتلاقح مع الحضارة الغربية تلك الروح الشريرة -من منظورهم - التي اجتاحت الخطاب الإصلاحي عند محمد عبده والأفغاني ووصفها الندوي بروح التغريب والتجديد، فيرى أن مهمة الإسلام ليست في استيعاب الغرب ومنجزاته المدنية بل في الهجوم عليه باسم عالمية الإسلام، والتصدي للإصلاحيين بوصفهم ثمار للتوسع الفكري الغربي في الوعي الإسلامي، فدور الإخوان المسلمون في الشرق العربي هو الرد على أمثال محمد عبده، والتصدي لمحاولات تلاميذه من التنويرين، ولا يقل دور الجماعة الإسلامية في الهند عن واجب الإخوان المسلمين في مواجهة الأفكار التي يرونها تهديدا للإسلام.

 رؤية الندوي للغرب لا تختلف عن رؤية مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا القائمة على الاستئصال والاستبدال، فالإسلام تمكينه واستخلافه مرهون باستئصال سلطان الغرب، فالجماعة بوصفها مجسدة لدعوة الإسلام في القرن العشرين ليست مدعوة لهداية الغرب فحسب بل إلى إخضاعه لرسالة الإسلام العالمية، دعوة لا تقف عند حدود الحكمة والموعظة الحسنة بل استرداد مُلك، واستعادة إمبراطورية قديمة، ولغة البنا واضحة: "الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم، كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام.

 ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل. ولئن كان السنيور موسوليني رأى من حقه أن يعيد الإمبراطورية الرومانية، وما تكونت الإمبراطورية المزعومة قديما إلا على أساس المطامع والأهواء، فإن من حقنا أن نعيد مجد الإمبراطورية الإسلامية."

 استشهد البنا بفاشية موسوليني كمبرر يُشرِّع لفاشية إخوانية إلا أنه استبدل بها كلمة إسلامية، فيُؤسِّس بمحاولات موسولينى استعادة الإمبراطورية الرومانية لمشروعية فكرته بضرورة استعادة الإمبراطورية الإسلامية من خلال تنظيم الإخوان المسلمين، بل يراه حقًا مشروعًا، وفريضة دينية، متجاوزا حدود العمل الدعوي الذي يقف عند حدود التبليغ بالتعريف بالإسلام إلى الحديث عن إخضاع أوروبا فكر الجماعات الساعية لإقامة دولة إسلامية كبرى بمفهوم الإمبراطورية أو الخلافة بقوة السلاح، وبهذا الطرح الإخواني لفكرة استعادة الدولة العظمي الإمبراطورية الإسلامية في مواجهة إمبراطوريات العصور القديمة تعيش الجماعة حلم قداسة وتنزيه التاريخ الإسلامي، وكأنه تاريخ صنعه الإسلام النَّصي المعصوم، وليس تاريخًا صنعه المسلمون بلا عصمة أو قداسة.

نظرة الجماعة المتعالية على الغرب تنطلق من نقطة خارج حدود عالمها المعاصر مرتدة إلى حلم الماضي، منفصلة عن مكونات الحاضر، ساعية الى مستقبل ليس في نقطة زمنية آتية بل في نقطة زمنية ماضية حيث كان صراع الإمبراطوريات، فتصطدم مع الخط الزمني الطبيعي للبناء والتطور، فالخط الزمني للإخوان ليس متجهًا إلى لأمام بل راجع إلى الخلف. وهذا "الإحساس السائد لدى الخطاب الأصولي بجبروت الإسلام وعالميته وقيادته ليس في الجوهر إلا تمويها أيديولوجيا للإحساس بالضعف والقهر والهامشية، يحول مركب القهر إلى مركب قوة ومركب الضعف إلى مركب جبروت، ومركب الاغتراب إلى مركب سيطرة ومركب الهزيمة إلى مركب انتصار من هنا يسيطر على الخطاب الأصولي وعي مؤامراتي يُصور العالم كله منخرطا في مؤامرة مخططة ومرسومة ضد الإسلام."

ويتحول الصراع مع الغرب إلى رفض وهدم لنموذج الدولة المدنية الحديثة الذي أنجزه الغرب، فيصبح مرفوضًا ليس لشيء إلا لكون المنشَأ غربيًا، فعقلية الجماعة ترى أن "الإسلام والمدنية الغربية يقومان على فكرتين في الحياة متناقضتين تمامًا لا يمكن أن يتفقا".

 هذا الصدام على المستوى النظري بين المدنية وفكر الجماعة (الإسلام في لغتهم) سرعان ما يتحوّل إلى صدام في تجاربهم العملية المحدودة.

يتبع
«ست رسائل أزهرية» تفكك خطاب الجماعة الإرهابية