رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تتكلوا على الرؤساء


قد يبدو عنوان هذا المقال أنه غريب على الأذن التى لم تعتد على مخاطبة الرؤساء بمثل هذه العبارة، فالمتوقع من الرئيس أى رئيس - لاسيما فى منطقتنا العربية أن الرئيس يملك عصا سحرية، كل ما عليه هو أن يؤشر بعصاه للشخصية القديمة والجديدة قائلاً «افتح يا سمسم»...

..، وكل الأبواب تنفتح فى الحال، أو المصباح السحرى الذى يسكنه روح معجزية وبمجرد أن يطلب منه طلباً، سواء كان فى بلاد الهنود أو خلف الجبال والتلال، وإذ بالخادم المعجزى يجيب ما لا يقدر عليه البشر.

أما عنوان هذا المقال فهو ليس من اختراع بشرى، بل هى كلمات ربانية نطق بها نبيه داود فى قصائده الشعرية فى لغتها العبرية، وترجمتها النثرية تقول «لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على ابن آدم». ثم فى الجزء الثانى من هذا البيت يأتى السبب «حيث لا خلاص عنده»، ولم يتوقف عند هذا البيت الأمر الربانى»، إذ يأتى البيت التالى والذى فيه يبين السبب، فيقول عن الملوك والرؤساء وبلغة الفرد «تخرج روحه فيعود إلى ترابه، والنصف الثانى من البيت الشعرى وردت ترجمته على هذا النحو «فى ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره، ويستطرد النبى القديم، يا لسعد من كان الله معينه ورجاؤه على الرب إلهه» فهو الصانع السموات والأرض، البحر وكل ما فيها، الحافظ الأمانة إلى الأبد، المجرى حكماً للمظلومين، المعطى خبزاً للجياع، وهو الرب الذى يطلق الأسرى ويفتح أعين العمى ويقوّم المنحنيين، يحب الصديقين، يحفظ الغرباء، يعضد اليتيم والأرملة.أما طريق الأشرار فيسده حتى لا يهرب الشرير من عقابه، «عظيم هو ربنا يحصى الكواكب ويدعوها بأسماء. عظيم القوة، ولفهمه لا إحصاء، يرفع الوعاء، ويضع الأشرار إلى الأسفل، يهيئ للأرض مطراً، وللجبال عشباً، وللبهائم طعاماً، ولفراخ الغربان التى تصرخ غذاءً. يجعل لحدود أرضنا سلاماً، يشبع الأرض بالحنطة، يعطى الثلج كالصوف، ويذرى الصقيع كالرماد، يرسل كلمته فيذيبها، يهب بريحه فتسيل المياه».والدافع لانتفاء هذه النصوص الربانية الخالدة التى تحققت على أرض الواقع فى حياة الشعوب المدركة للحكمة الإلهية والواثقة فى الوعود الربانية والمختبرة للحياة بكل جوانبها فإنهم لا يلقون بكل الأحمال على حكوماتهم، ولا يطالبونهم بغير ما يملكون، ولا يتوقعون منهم صنع المعجزات. فالقادة المخلصون الأمناء هم الذين يخرجون من صفوف شعوبهم، ولا ينفصلون عنهم بمجرد اعتلاء الكراسى، وتبعد المسافات بين القادة وشعوبهم، مما يصيب الشعوب بالإحباط، ومع الوقت تتسع المسافات، وكأن الرؤساء على قمم الجبال العالية وشعوبهم أسفل الجبال، يفترشون الرمال، ويسهرون الليل، ويترقبون بالنهار عسى من كان بالأمس بينهم، ولكنه صعد على أكتافهم، واستهوته القمة العالية، وزين له أفراد حاشيته الذين حملوه ليصعد، فظلوا معه ونسى الغالبية، حتى أن معظمهم نسى اسم من أعطاهم صوته. حتى لا يستغرقنى الفكر فاستطرد شرحاً لأنات وتأوهات القاعدة الشعبية التى أنهكتها حاجتها إلى الطعام المناسب، وكوب ماء خال من جدول الأمراض التى ندر لها الدواء، وإن وجد شق عليهم الشراء، فسياط الغلاء أدمى الجراح، وندرة الغذاء الصحيح أنهك القوى وهش العظام، وليس أمامهم إلا شخص واحد تذكروا يوماً أنه كان الأمل والمتكل، وإذ به يريهم اليد فارغة، والجيوب مثقوبة، والحيل مغلوبة، وعلى المتضرر أن يلجأ إلى البحر شمالاً، وإلى أهل البادية شرقاً وغرباً، آملين نجاة من الغرق، وأماناً بين جيران كانوا بالأمس أسوأ من حالنا اليوم، وكنا نحن فى أحسن الأحوال، إلا أن أكثرهم اليوم قد نسوا الأمس، بل ونسوا نعمة الله عليهم، حتى ظهر من بينهم من استباح العرض والأرض، وحل العرق، وداس الدم، واغتر بما منحه الله من رزق واسع لا فضل لهم فيه. فالفضل أولاً وأخيراً للأرض الصماء التى لا تسمع ولا عين لها لترى، فامتلأت الجيوب بالذهب، بعد تحويله من اللون الأسود إلى ألوان زاهية، تحولت إلى أرصدة بنكية، ويخوت مائية، وقصور فى أنحاء الدنيا، مع زينتها البراقة، وضجيجها المحبب، وردم التاريخ بكل صفحاته، ولم يبق منه إلا غلافه.وأختم بهذه الحادثة الخالدة التى جمعت بين شخصين فى مدينة واحدة، بل فى حى واحد، بل فى عنوان مشترك، مع فارق لا يتجاوز خطوة أو خطوتين، الأول فى داخل قصره الذى حوى كل لذات الدنيا، والثانى فقد المأوى، وتخلى الاقربون عنه، إذ كان قد ابتلى بالمرض والجروح والقيوح، وكان صاحب القصر مع معرفته الشخصية له إلا أنه غض الطرف عنه، وبخل برغيف أو بكسرة من الرغيف، ولم يفكر ذاك الغنى أن يقدم له علاجاً لجروحه وقروحه، واستمر الحال على المنوال طويلاً، ولكن ليست هذه نهاية القصة، إذ ماتا فى زمن متقارب، وبعد الموت تبدل الحال، وتغيرت الأوضاع، إذ شفى المضروب بالجروح والقروح، لأنه تركها تحت التراب، لتذهب روحه سليمة نقية لا عيب فيها، على عكس الآخر الذى ألقى فى عذاب أليم، فكان كل حلمه لمسة من المسكين، أو جرعة ماء منه، ولكن هيهات، فقد أسدل الستار، وتغير الحال، وتبدلت الأوضاع.والسؤال هل ندرك جميعاً، قادة وشعوباً، أن النهاية قادمة، وعلى مسافة قريبة جداً من كل واحد وواحدة منا.وعلينا أن نبادر الآن بتصفية الحساب، حتى لا نندم على ما فات، عندما لا ينفع الندم بعد العدم، وأذكر نفسى وإياكم «لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم حيث لا خلاص عنده»، بل اطلبوا السلام، وجدّوا فى تحقيقه، ومعاً نختار من يحمل المسئولية معنا طالما ارتضى أن يعمل بإخلاص وجد وعطاء وبذل، وكلنا معه نعيش معاً ونموت معاً، لتبقى مصر مرفوعة الرأس.

■ رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر