رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الباحث والناقد المغربي محمد مستقيم: الذات العربية تزداد ضعفًا مع التحولات العالمية

الباحث والناقد المغربي محمد مستقيم: الذات العربية تزداد ضعفًا مع التحولات العالمية

الباحث والناقد المغربي
الباحث والناقد المغربي محمد مستقيم

يولي الناقد والباحث المغربي محمد مستقيم اهتمامًا في أعماله المنشورة بقضايا الفكر العربي وإشكالياته القديمة والمستجدة.

يتجلى هذا الاهتمام في عدد من الأعمال على رأسها كتاب «مفاهيم أركونية.. المشروع النقدي للعقل الإسلامي» 2013، و«القطيعة الابستمولوجية، رحلة مفهوم من العلم إلى الثقافة» 2018. 

مؤخرًا، صدر للباحث المغربي كتاب جديد بعنوان «التأخر التاريخي عند العرب، محاولات في التشخيص والنقد» عن دار أكورا للنشر في المغرب، وفيه يستعرض جملة من القضايا التي انشغل بها الفكر العربي لا سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين مُبرزًا بعض الأطروحات الفكرية لكبار المفكرين فيها، ومحللًا لأسباب حضورها في الوقت الراهن. 

«الدستور» حاورت «مستقيم» حول عدد من الموضوعات التي يثيرها في كتابه.  

التأخر التاريخي 

يُبين مستقيم في كتابه أن المشاريع الفكرية العربية بدأت كمحاولة التخلص من حالة التأخر التاريخي عند العرب مع رواد النهضة الأوائل في القرن التاسع عشر في مصر والشام والمغرب، فاحصًا مفهوم التأخر التاريخي استنادًا إلى أطروحة المفكر المغربي عبد الله العروي في تحليلاته الفكرية.

 يربط العروي في أطروحته مفهوم التأخر التاريخي بجملة من التأكيدات هي: وجود مرحلة متقدمة في تطور التاريخ بالنسبة لظروف مجتمعه الأصلي، ووجود وحدة مسيرة في التاريخ، وعدم وجود أسرار في التاريخ، وإمكانية حدوث طفرة في التاريخ، والحل الذي يقدمه للانعتاق من التخلف التاريخي يتمثل في ضرورة  إنجاز ثورة ثقافية شاملة بما يعني القطيعة مع كل المظاهر الفكرية التي تعوق تحقيق قيم الحداثة العربية.  

كتاب

في حواره مع "الدستور"، يوضح الباحث المغربي أسباب اختياره لموضوع التأخر التاريخي للكتابة عنه قائلًا: "يتعلق الاختيار براهنية معضلة التخلف التي ما زال يعاني منها العرب، كذلك راهنية السؤال الذي طرحه المفكر العربي اللبناني شكيب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟". فالذات العربية ما زالت تعيش على هامش التاريخ الإنساني وتزداد انفصاما وانغلاقا على نفسها وعلى ماضيها، ويزداد هذا الضعف أمام التحولات العالمية الكبرى وأمام آلية التغلغل والنفود التي تمارسه دول الغرب في إطار مسايرتها للآلة الإنتاحية الرأسمالية التي ما فتئت تجدد نفسها باستمرار في مقابل هذا التقهقر الذي تعيشه مجتمعات العرب، بسبب بنياتها التقليدية العائلية والطائفية البعيدة عما عرفته المجتمعات من تحولات".

وعن أسباب  اختياره لأطروحات المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي كمنطلق لهذا العمل يقول: "يأتي من كونه أحد المفكرين العربي الذين جعلوا قضيتهم الأولى التأخر التاريخي، وباعتبار أبحاثه تقوم على أرضية صلبة التي هي التاريخ. كما أن عبد الله العروي قد حاول أن يؤصل لهذا المفهوم المنحدر في فلسفة التاريخ الألمانية خصوصا في القرن التاسع عشر، ويضعه على رأس جدول الأعمال في مشروعه الفكري والنقدي الذي هو أساسا مشروع في نقد الإيديولوجيا".

تحليل أسباب التردي 

يناقش الكتاب جملة من القضايا التي كانت سببًا في تعزيز وضعية التأخر التاريخي، ومن أهمها بنية المجتمع البطريركي الذي يقود تحليلها إلى مزيد من التشخيص للأزمة، نظرًا لتغلغل تلك العقلية في بنية اللا وعي العربي، ومن ثم يلقى الكاتب ضوءًا على أطروحات المفكر الفلسطيني هشام شرابي البارزة في هذا الصدد.  

في كتابه "النقد الحضاري"، أوضح شرابي أن الهدف من النقد لحضاري هو تفكيك البنية البطريركية للمجتمعات العربية على أصعدة مختلفة؛  على الصعيد النفسي والمعرفي من خلال الإطاحة بسلطة الخطاب الأبوي الذي يدعي الحقيقة المطلقة، وكذلك على الصعيد الأيدولوجي بهدف منح الأولوية للنموذج التعددي الذي تتمتع فيه كل الفئات بالمساواة والديمقراطية وتوزيع السلطة، وأيضًا الصعيد السياسي بالتأكيد على أن التغيير ينبغي أن يتم على شتى المستويات والممارسات اليومية وليس فقط على مستوى السلطة السياسية. 

وفي كتابه "النظام الأبوي"، لفت شرابي أنه في خلال المائة عام الأخيرة كانت التغيرات في المجتمع العربي جراء اصطدامه بالحضارة الغربية الحديثة سطحية، لكن لم يحدث تحولًا جذريًا مما أدى إلى تحديث سطحي في نظام يدعي التوفيق بين التراث والحداثة، منوهًا بأن الصراع في الثقافة العربية هو صراع ثقافي واجتماعي يجري بين تيارين متعارضين هما التيار الأصولي والتيار العلماني، ولم يستطع أحد منهما تأسيس خطاب نقدي وتحليلي قادر على معالجة قضايا المجتمع.

وردًا على سؤالنا له:  "هل يمكن اعتبار الإشكاليات التي طرحتها في الكتاب جزءًا من الإشكالية الكبرى؛ التراث والحداثة التي لم تُحل بعد رغم كل الجهود الفكرية؟" يجيب مستقيم:  "صحيح، لأن إشكالية التراث والحداثة من بين القضايا الكبرى التي تحتاج المزيد من البحث والدراسة، خصوصا أن الجهود التي ذكرت تبقى في معظمها جهودا فردية. فقضايا الفكر والمجتمع العربيين تحتاج إلى عمل جماعي وأن تدخل مؤسسات متخصصة في البحث، وهذا ما نفتقده مع الأسف في عالمنا العربي، باستثناء بعض المبادرات التي تبقى محدودة".

التحليل النفسي للإشكالية 

يسلط مستقيم في كتابه الضوء على جهود فكرية عربية اتخذت من التحليل النفسي تكأة لتحليل أسباب التخلف العربي، ومن أهمها أطروحات المفكر اللبناني مصطفى حجازي الذي وقف على ظاهرة التخلف من الناحية السيكولوجية للإنسان المقهور الذي يلجأ إلى الخرافة لمواجهة عجزه، والذي يقدم في كتابه  "الكلام أو الموت" رؤية تحليلية نفسية في شروط قيام المجتمع الإنساني. 

ومن جملة القضايا التي يقاربها الكتاب إشكالية الطائفية التي تنخر في جسد دول عربية، والتي تفاقمت بسبب إخفاق المجتمعات العربية في بناء دول مدنية حديثة سياسيا وقانونيا ما أدى بالوضع الاجتماعي إلى الهشاشة والضعف أمام العولمة، ويتعرض لها عبر إبراز بعض التحليلات الفكرية لباحثين عرب أمثال برهان غليون وناصيف نصار.

كتاب "التأخر التاريخي عند العرب"

تلقي الفكر العربي للمفاهيم الغربية

يوضح مستقيم في حواره معنا أن كتابه "التأخر التاريخي" يأتي في إطار سلسلة من المؤلفات تبدأ بكتاب حول "هرمينوطيقا الباطن عند فرويد" ثم كتاب "مفاهيم أركونية" وبعده"القطيعة الابستمولوجية"، وتنطلق من فكرة تلقي الفكر العربي لمجموعة من المفاهيم التي تنتمي إلى الفكر الغربي بصفة عامة، ومحاولة المفكرين العرب تبيئة هذه المفاهيم وإدخالها ضمن مشاريعهم الفكرية النقدية. 

ويضيف: مثلا الكتاب الأول كنت قد اشتغلت على المشروع التأويلي عند المفكر المصري حامد نصر أبو زيد في إطار بحث أكاديمي وقادتني دراستي في هذا المجال إلى التوقف عند نظرية التحليل النفسي لفرويد باعتبارها نظرية في القراءة والتأويل وليس فقط نظرية في علاج الاضطرابات النفسية والعقلية. وهذا ما جعلني أهتم بالبعد السيكولوجي في عملية التأويل. 

ويتابع: أما مفاهيم محمد أركون فكلها مستمدة في الفكر الأوربي المعاصر بمختلف اتجاهاته وروافده البنيوية والتفكيكية والتاريخية والتأويلية. في كتاب "القطيعة الابستمولوجية" حاولت أن أتتبع مختلف التوظيفات العربية التي استعملت هذه المفهوم في دراسة التراث العربي الإسلامي خاصة عند محمد عابد الجابري ومحمد أركون وعبد الله العروي. بعدما تتبعت تطور المفهوم في المدارس والتيارات الابستمولوجية الغربية خلال القرن العشرين.

وفيما يخص سبل تعامل المفكرين العرب مع المناهج النقدية الغربية يقول: لسنا وحدنا الذين نستورد المناهج النقدية والفكرية في معالجة قضايا الأزمة، فالتفاعل الحضاري هو حاجة إنسانية والاستفادة من الآخر شيء محمود كما نصح بذلك الفيلسوف ابن رشد، خصوصا وأن هناك مشتركًا بين أفراد المجتمع الإنساني، ومن حقنا أن نستفيد مما هو متاح للبشرية جمعاء. وتعامل المفكرين العرب مع ما هو متاح يتراوح بين الفشل والنجاح، وكما قلت فإن الأمر يتعلق بمدى مشاركة جماعية من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.

من الحداثة إلى ما بعد الحداثة

يناقش الكتاب في فصله الأخير إشكالية الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة عبر أطروحات عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان الذي يوضح أشكال التغير في الحياة الاجتماعية بعدما طالت السيولة مجال القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية وما عكسته من تمظهرات في السلوك والمعتقدات، وانتشار حضارة الاستهلاك في كل بقاع العالم بفضل العولمة ما أدى إلى أن تصبح السيولة نمط الحياة في الوقت الراهن بما تعنيه من عدم الثقة لتعدد مراكز الفعل والقرار، والإيمان المتنامي بأن التغيير هو الثبات الوحيد وأن اللايقين هو اليقين الوحيد. 

وفي هذا الصدد يقول مستقيم في حواره معنا: "حاولت في هذا الملحق أن أبين أن الفكر الغربي منذ عصر النهضة ما فتىء يراجع نفسه باستمرار فليس هناك فكر بشري غير قابل للنقد والمراجعة، وهذا هو سر التطور الجدلي الذي عرفته تلك الثقافة عبر تاريخها الحديث. وإذا كان مفهوم النقد هو أحد أعمدة الفكر الحديث، فالحداثة بدورها تعرضت للنقد وإعادة النظر في الكثير من المنطلقات، وهذا جانب صحي ومقبول".

ويتابع: أطروحات باومان تدخل في هذا الإطار النقدي الذي فنحن في حاجة إليه للتعرف على التطورات الهائلة التي يعرفها الفكر الإنساني العالمي، والترويج لمثل هذه النقاشات داخل الأوساط الأكاديمية في العالم العربي.. إن الفكر الغربي عندما ينتقد التنوير ويكشف على أوجهه السلبية فهو لا يدعو إلى إلغائه بل يسعى إلى تقويته عبر المساءلة والنقد. إن خطاب الما بعد لا يعني القطيعة مع مرحلة انتهت وبداية مرحلة جديدة، لأن ما بعد هو استمرار لما قبل بأشكال مختلفة. فما بعد الحداثة هي مرحلة جديدة من الحداثة التي هي مشروع لا يكتمل حسب تعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس. 

تحولات الألفية الثالثة

وفيما يخص الإشكاليات التي استجدت في الألفية الثالثة يقول مستقيم: "تميزت الألفية الثالثة بتحولات عميقة مست كل المجالات الحياتية للإنسان المعاصر وعلى شتى الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وطبيعي أن يكون هناك تحول على المستوى الفكري، يؤدي حتما إلى التفكير في تلك القضايا المطروحة من زوايا جديدة". 

كتاب

ويضيف: بدأ الفكر العربي المعاصر يتناول قضايا لها طابع عالمي مثل فلسفة الدين وابستمولوجيا الاعتقاد خصوصا مع المستجدات الفلسفية التي طرأت على الساحة الفكرية الغربية مع ظهور تيارت جديدة انحدرت من الفلسفة الظاهراتية والتأويليات المعاصرة التي لم تبق حبيسة للفكر الألماني بل أصبحت هناك مدارس ظاهراتية فرنسية وأمريكية وانجليزية. كذلك هناك الأجيال الجديدة لمدرسة فرانكفورت الألمانية التي تفرعت إلى تيارات تتناول بالدرس قضايا تتعلق ببراديغمات جديدة مثل براديغم الاعتراف مع أكسيل هونيت، وقضايا الفضاء العمومي مع نانسي فرايز وسيلا بن حبيب. وما أفرزته الفلسفة الأمريكية من أطروحات مستجدة حول العدالة الليبرالية الجديدة مع جون راولز، وقضايا الدين والعلمانية مع تشارلز تايلر. بالإضافة إلى السجالات الكبرى بين الفلاسفة الليبراليين الجدد والفلاسفة الجماعاتيين. لاننسى كذلك مستجدات فلسفة البيئة والبيوإتيقا والفلسفة النسوية. كل هذه الفتوحات المعرفية الجديدة بدأت تتسرب إلى الثقافة العربية المعاصرة عبر بوابة الترجمة والمحاضرات الجامعية التي يلقيها أساتذة متخصصون في هذه المجالات، كما ظهر التأثير في عناوين الأطروحات والرسائل الجامعية التي بدأت تتطرق لهذه المواضيع بحثا ودراسة.

ويبين مستقيم في ختام حواره مع "الدستور" أنه بصدد العمل حاليا على موضوعات تتعلق بالفلسفة العربية المعاصرة وكيفية تلقي بعض المفاهيم والتيارات الفلسفية عند رواد هذه الفلسفة مثل تلقي فلسفة مارتن هيدجر في الفكر العربي المعاصر وكذلك الفلسفات العربية المعاصرة التي تبنت فلسفات غربية وحاولت دمجها في الثقافة العربية مثل الفلسفة الشخصانية عند محمد عزيز الحبابي والفلسفة الوجودية عن عبد الرحمن بدوي، والفلسفة الوضعانية عند زكي نجيب محمود، والفلسفة الجوانية عند عثمان أمين.