رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبد المقصود عبد الكريم يكتب: ماذا يحدث في المركز القومي للترجمة؟

عبد المقصود عبد الكريم
عبد المقصود عبد الكريم

أظن أنه لا مجال هنا للحديث عن أهمية الترجمة في تطور الأمم وفي نهضتها، الترجمة باختصار رئة الأمم، بدونها تختنق. الترجمة تنوير للمشاعر والعقول. ولا مجال للحديث عن أمثلة لأمم لم تبدأ نهضتها إلا بالترجمة. وحتى لا مجال للحديث عن أهمية وجود مركز قومي للترجمة في بلاد مثل بلادنا، وأهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به، وقد قام به بالفعل في السنوات الأولى من تأسيسه على يد واحد من أبرز من ساهموا في الثقافة المصرية في العقود الأخيرة، أعني الدكتور جابر عصفور، لروحه الرحمة والمحبة والسلام؛ لكنني سأذهب مباشرة إلى ما آل إليه هذا الصرح، المركز القومي للترجمة، الذي كان عظيمًا منذ بضع سنوات. 

وقبل ذلك أود أن أقدم ملاحظة عابرة، لكنها ضرورية على ما يبدو، وهي أنني أحد أكثر المترجمين الذين ساهموا في إنتاج المركز، ترجمة ومراجعة وفحصًا لترجمات الآخرين أو إبداء رأي في كتاب يفكر المركز في ترجمته، وحتى تحكيمًا في جائزته، وقد تعاملت مع المشـروع القومي للترجمة قبل تأسيس المركز، وبالتالي أعرف الكثير عنه وعن التدهور الذي عانى منه بعد تأسيسه بسنوات، وقد تدهور بالفعل وهو لا يزال طفلا، بعد بضع سنوات من تأسيسه، تدهور واضمحل بدل أن ينمو ويتطور، حتى تحول بالفعل في الفترة الأخيرة إلى ما يمكن وصفه بأنه مقبرة قومية للترجمة. 

والمسألة باختصار شديد أنك إذا كنت سيئ الحظ بدرجة تجعلك تترجم في السنوات الأخيرة كتابًا للمقبرة القومية للترجمة، المركز القومي للترجمة سابقًا؛ وإذا كنت أحمق لدرجة تجعلك تذهب إلى تلك المقبرة لتسأل عن مصير كتاب ترجمته، وتنتظر إجابة سوى أن كتابك مات منذ زمن وجثته مُجمَّدة منذ فترة في ثلاجة مشرحة القومي للترجمة، فعليك أن تتحمل تبعات حماقتك. الأفضل إذا نويت زيارة تلك المقبرة أن تصطحب معك شيخًا يقرأ على كتابك بعض ما تيسر من القرآن، وبعض المخبوزات توزعها رحمة على كتابك. وبالنسبة لي في مثل تلك الزيارات، إذا حدثت، لا أنسى الترحم على روح الدكتور جابر عصفور الذي أسَّس المركز وتركه في أزهى صورة، وأترحم أيضًا على مشـروعه الذي قتلته البيروقراطية الجبانة والأوبئة السلفية التي تتفشى فيه!

وحتى لا يبدو أنني أكتب كلامًا غير محدد أنتقل مباشرة إلى وقائع مُحدَّدة. هناك مئات الكتب التي تُرْجِمت، ودفع المركز حقوق الملكية الفكرية لدور النشر الأجنبية وتقاضى المترجم حقه المادي كاملًا ولم تصدر بعد مرور سنوات طويلة على تسليمها؛ وأذكر هنا ما يتعلق بي شخصيًّا، ليس لأنه يتعلق بي لكن لأنه نموذج لما حدث مع عشـرات المترجمين، ما جعل عددًا كبيرًا من أفضل المترجمين يتوقفون عن التعاون مع المركز، وما يتعلق بي شخصيًّا سيئ ومحبط للغاية لكنه على ما يبدو لي ليس أسوأ ما في المركز، فحين أقول لي كتاب منذ 2014 يكون الرد أن هناك كتبًا من قبل 2012.  

لي شخصيًّا ثلاثة كتب، سلَّمتُ آخرها في أوائل 2019، وبالتالي لن آتي على ذكره بالرغم من أن ثلاث سنوات ليست فترة قصيرة في عصر يُحْسَب فيه الزمن بجزء على المليار من الثانية. لن أذكره لأنه الأحدث ولأن مؤلفته مصرية وأعلم أنها تتابعه بدأب شديد. 

الكتاب الأول يمثل المجلد الأخير من موسوعة كمبريدج عن تاريخ الأدب العربي، وهي موسوعة من ستة مجلدات تعاقد المركز على ترجمة أربعة منها وقد صدرت المجلدات الثلاثة الأولى منها، والمجلد الأول منها عن تاريخ الأدب العربي حتى نهاية العصر الأموي من ترجمتي. المجلد الأخير بعنوان "تاريخ الأدب العربي الحديث"، سلمت الترجمة في 2014 (التاريخ صحيح)، ووقعت على البروفة الثانية قبل ذهاب الكتاب إلى المطبعة في 2016؛ ويعترف المسئولون في المركز أنه في المطبعة منذ 2017 (مرة أخرى التاريخ صحيح) ولم يصدر حتى اليوم؛ وحين سألت اكتشفت أن مشكلتهم عدم عثورهم على النسخة الأجنبية (وهي عهدة وحق دولة) وبالتالي عدم تمكنهم من عمل سكنر للببليوجرافيا وهو سبب ينم عن إهمال وعن تكاسل؛ إهمال بفقدان الأصل الأجنبي وتكاسل لأن المشكلة تافهة ويمكن لصبي صغير في عصرنا أن يحلها في بضع ثوانٍ. 

والكتاب الثاني "التنوير: تفسير"، تأليف بيتر جاي، والكتاب في مجلدين، والأصل الإنجليزي نصف مليون كلمة تقريبًا، وهذا الكتاب سلمته في 2016، وحرصًا على تسليم الترجمة في موعدها المُحدَّد عملت أسبوعين بعين واحدة بسبب إجراء عمليتين في عيني أثناء العمل في ترجمته، وهو أمر أذكره بمرارة، وليست هناك أي أخبار عنه.

اعتدت قبل اتخاذ قرار بعدم التعاون مع المركز في ترجمة أي أعمال جديدة حتى تتغير وتيرة العمل وتصدر الأعمال الراكدة في دهاليز المركز القومي للترجمة، معذرة أقصد المقبرة القومية للترجمة، أن أذهب إلى المركز للسؤال عن أعمالي وكانت الإجابة التي أتلقاها دائمًا كلما سألت عن كتاب: "الكتاب في المطبعة"، حتى صرت أسخر من سؤالي وأسخر من ردهم. 

وبعد 2019 ذهبت إلى المركز مرتين، مرة بعد تولي الدكتورة كرمة سامي إدارة المركز بفترة قصيرة، سألت عن كتبي واستمعت إلى الرد نفسه من إدارة التصحيح، وبالتالي عرضت مشكلة كتبي على الدكتورة الفاضلة مديرة المركز، وقد تفضلت بتقديم وعود متفائلة وعبرت عن نوايا طيبة، لكنني يومها خرجت بانطباع قوي بأنها مجرد وعود وبأن النوايا الطيبة وحدها لا تقدم كوب ماء للظمآن (ملاحظة عابرة، عملت لأربعين عامًا تقريبًا طبيبًا نفسيًّا، وأظن أن حكمي على مثل هذه الأمور يستند إلى قدر لا بأس به من الخبرة). 

وكانت الزيارة الأخيرة يوم الاثنين الماضي، 28 فبراير 2022، وفيها تحققت من صحة انطباعي الذي خرجت به بعد الزيارة الأولى. السؤال نفسه والرد نفسه، لم يتغير شيء بعد سنة ونصف تقريبًا من الزيارة الأولى. معذرة، تغيرت الأمور إلى الأسوأ، فقد سمعت عن عدد يسد عين الشمس من اللجان، لجان يمكن أن تعطل مسيرة أي عمل مما أدى إلى الانخفاض الهائل في عدد الكتب الصادرة، وفي عدد النسخ الصادرة من كل كتاب، مما يرفع تكلفة النسخة الواحدة إلى رقم فلكي إذا قسمنا ميزانية المركز على عدد النسخ الصادرة، وهو ما أدى بالفعل إلى ارتفاع سعر بيع الإصدارات الجديدة بشكل لا يصدق، مما أدى إلى انخفاض التوزيع بشكل رهيب. 

ومرة أخرى دخلت إلى مديرة المركز، وطلبت منها تحديد الموقف بشأن نشر أعمالي، أو الاعتذار عن نشرها رسميًّا لأنشرها في مكان آخر، فتحدثت عن استحالة كتابة مثل هذا الاعتذار لأنه يمثل إهدارًا للمال العام، وكان ردي: ألا يمثل ما تقاضيته من مقابل للترجمة وما دُفِع لدار النشر الأجنبية مقابل حقوق الملكية الفكرية مع عدم نشر الكتب إهدارًا للمال العام؟ 

عمومًا، اتصلت السيدة الفاضلة بمسئول وطلبت حضور أكثر من مسئول آخر من العاملين في المركز، وتأكَّدت مما أخبرتها به بشأن كتاب "تاريخ الأدب العربي الحديث"، واتصلتْ وأنا في مكتبها بالدكتور أيمن صابر، مسئول إدارة التصحيح، وكان في إجازة، لتعرف منه ما يتعلق بكتاب التنوير، ووعدت بأنه سيخبرها في اليوم التالي حين يأتي إلى مكتبه وأنها سوف تتصل بي لتخبرني بالموقف من الكتاب.

في اليوم التالي لم تتصل، ولأنني كنت أنوي الكتابة عمَّا يحدث في هذه المقبرة، المركز سابقًا، اتصلت أنا بها مرتين على غير عادتي ولم ترد. فأرسلت رسالتين إليها على الموبايل رسالة نصية إس إم إس ورسالة صوتية على الواتس في عصر ذلك اليوم، وأتاني الرد في رسالة نصية على الواتس في الساعة الثامنة وثلاث وأربعين دقيقة وهذا نصه بالضبط: "في انتظار رد جميع الإدارات المعنية. أهلا بحضرتك.." في الحقيقة لم أسمع طول حياتي من مدير لمؤسسة بحجم هذه المقبرة القومية للترجمة مثل هذا الرد ولم أتوقعه؛ وكان تعليقي بيني وبين نفسي "يا له من رد عبقري"، إنه رد يوحي، لمن لا يعرف، أن هذه المقبرة الصغيرة مقبرة كونية مترامية الأطراف، ولا بد من ورود الردود فيها من الكواكب الأخرى بوسائل لا أحد يعلمها!

في اليوم التالي في اتصال تليفوني مع الأستاذ وليد عبد العزيز وكانت السيدة الفاضلة قد كلفته بتحميل نسخة بي دي إف من كتاب تاريخ الأدب العربي الحديث، لنسخ الببليوجرافيا منها، أخبرني أنه حصل على النسخة بالفعل وبأن الدكتورة الفاضلة كلفته بأني يبلغني بأن فترة التعاقد مع دار النشر الأجنبية قد انتهت وأنه لا بد من إجراءات مع تلك الدار لمد فترة التعاقد أو تجديد التعاقد. وما أعرفه أن هذا يعني بالضرورة إهدار المزيد من المال العام، على شكل مقابل يدفع لدار النشر الأجنبية؛ والأسوأ أن بعض الدور ترفض ذلك وبالتالي يستحيل نشر الكتاب بشكل قانوني، وهو ما حدث معي في كتاب "العوالم الرمزية" ومع الصديق الدكتور طارق النعمان في ترجمته لكتاب "الفلسفة في الجسد".

حالتي مجرد حالة من مئات الحالات، والمبرر الذي تسمعه من الدكتورة هو التركة الثقيلة، وهو مبرر سمعناه من عشرات المسئولين، وهو في رأيي عذر أقبح من الذنب. هذه الحالات تعني باختصار:

1- إهدار قدر كبير من الطاقة البشرية، طاقة المترجمين الذين ترجموا مئات الكتب التي لم تصدر، وطاقة الموظفين التائهين في دهاليز البيروقراطية ولا يعرف معظمهم المطلوب منهم بالضبط!
2- إهدار مبالغ هائلة من المال العام، كتاب التنوير وحده نصف مليون كلمة، والمقابل الذي حصلت عليه لم يكن بالمبلغ القليل!
3- تدمير صرح عظيم، أو كان عظيمًا، من صروح الثقافة المصرية. صرح حلمت بمثله شعوب كثيرة!
4- الروح والوتيرة البيروقراطية التي تهيمن على المركز لا يُرجَى منها أي خير؛ وخصوصًا بعد انتشار وباء اللجان!
5- خفض الأعداد المطبوعة من كل كتاب وزيادة تكلفة الكتاب ورفع سعره يعني وصول الكتاب إلى أعداد محدودة إن صدر، وهو ما يتنافى مع رسالة المركز.
6- نفور عدد كبير من أفضل المترجمين في مصر عن العمل مع المركز، وأعرف شخصيًا عددًا لا بأس به منهم.
7- هناك عدد من الكتب يصدر بعد انتهاء الفترة المنصوص عليها في العقد مع دار النشر الأجنبية مما يعني سقوط أحقية المركز في نشره، وفي هذه الحالة يدفن الكتاب في المخازن.
8- هناك صمت  عمَّا يحدث في المركز منذ سنوات، وهو في رأيي صمت يثير الريبة؛ وكأن تدمير المركز وتحويله إلى مقبرة، أو كافتيريا، في موقع نموذجي أمر مخطط له.