رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيلم قدرات غير عادية.. نهاية أسطورة داود عبدالسيد

"وتدريجيًا اكتشفت أني أحن لحياتي في أرض الخوف بلا قدرة على العودة إليها" ـ يحيى المنقبادي ـ (آدم)

في البدء كانت الجنة، حيث الخلود بلا ألم، والراحة بلا ملل، والجمال بلا شائبة، هناك بدأ الإنسان رحلته إلى المجهول، إلى أرض الخوف والخطيئة، وكذلك المغفرة والفداء، ليشدوا ملحمة الوجود، محملًا بحلم العودة إلى عالمه الأول، وحنين غريب إلى أرض الخوف.

هكذا ينسج "داود عبدالسيد" عالمه الخاص، بإتقان الباحث عن الحقيقة، وشفافية صاحب اليقين، يورطنا من حيث لا نعلم في تساؤلات لا تنتهي، عن الجدوى والوجود.

الحقيقة أننا لن ندرك "يحيى" (آدم) في أرض الخوف، بعيدًا عن "يحيى" رسائل البحر، وأخيرًا "يحيى" في قدرات غير عادية، (آخر أفلام داود عبدالسيد، 2015..بطولة خالد أبوالنجا، ونجلاء بدر وعباس أبوالحسن)، الفكرة أكبر من مجرد إعجاب مخرج باسم، أو تكرار خالٍ من مضمون، لكنه "يحيى" (الخلود) الرمز والعقدة والحل، الملحمة التي نحيا فصولها في كل عمل جديد.

وعصى آدم ربه فغوى

إن كانت رحلة "يحيى" في (أرض الخوف) بمثابة السقوط الإنساني إلى عالم الغواية، ففي (قدرات غير عادية) قرر "يحيى المنقبادي" أن يعود من رحلته في أرض الخوف، وبشكل عكسي إلى عالمه الأول، حيث القدرات الفائقة، طبيعة البشر التي فقدوها في رحلة المجهول الأرضي، فالإنسان ذلك المجتبى المختار، نسى في صخب (الحياة) أنه السر، صاحب القدرة، والحظوة والأمانة. هكذا قرر بطل الفيلم الدكتور "يحيى المنقبادي" أن يبدأ رحلته بعد يأسه في العثور على أصحاب القدرات غير العادية (موضوع بحثه)، وكأنه يبحث عن الإنسان الكامل المنزه عن الخطيئة. فسار على غير هدى، في إشارة إلى عبثية الرحلة أو قدريتها من منظور آخر، ليصل مصادفة إلى (بانسيون) على البحر، وهناك يعثر على مراده، الطفلة(فريدة) ابنة (حياة)، والتي تكشفها الأحداث مفتتحًا لقدرات غير عادية لا متناهية لدى جميع شخصيات الفيلم، أو لدى الإنسان عمومًا إن شئنا الدقة. ومن هنا تحديدًا يبدأ الصراع.

رحابة الأمكنة والحنين إلى المعراج

المكان عنصر أصيل لتشكل الصورة الفنية في "قدرات غير عادية"، وقد حاول داود أن يقدمه لنا كبطل، يخرج من حياده المعتاد إلى عالم من الخيال والدلالة، فالبنسيون المُحمل بكل النقاء والرحابة، يطل مباشرة على اتساع البحر الذي يتماهى بلونه الأزرق مع ألوان البنسيون (الأزرق والأبيض) فيتمزجان كتلة لونية ورمزية واحدة.

هنا تكمن التجربة الكاملة الأولى، حيث السعادة والراحة والرضا، وحتى تكتمل الفكرة، تظهر شخصيات البنسيون بتباينها الغريب في حالة وفاق تام، فرغم الخلاف الظاهر بين (رجب البنهاوي) المنشد الديني، والمغني الأوبرالي (رامز شريف) إلا أن كليهما لديه القدرة على الاستماع بل والاستمتاع أحيانًا بأنماط غناء متعارضة ظاهريًا، لكنها متناغمة في الباطن.

الأمر يتجاوز الغناء بأنواعه كتيمة أصيلة لتصوراتنا عن الجنة، إلى شخصية (راجي منصور) أستاذ الفنون الجميلة، رمز الفن، الذي يحاول طوال الأحداث أن يرسم المكان وشخوصه، وكأنه يرمز إلى محاولات الفن الدائمة لتخليد جمال الحياة في لحظة، وصولًا لشخصية (سنيور أنطونيو) المخرج الذي جاء من بلاده ليصنع فيلمًا تسجيليًا عن (عاهرات البحر المتوسط)، فمكث في البنسيون لسنوات، في رمزية إلى المتعة المجردة الخالصة. 

فالغناء والفن والمتعة في مكان واحد، منفصل عن كل حدود الواقع، ملامس لعالم سماوي يزداد بهاء بحضور صاحبة البنسيون (حياة) والتي امتلكت ذات يوم قدرات فائقة، ولكنها فقدتها في صخب الحياة، يعاملها الجميع بحب واحترام، يليق بكونها فعلًا الحياة، التي منحت لكل تلك الأفكار التحقق والوجود. بالإضافة إلى شخصية (حبيب الله) الخادم النوبي، الذي يراهن على الخيول، والأهم (فريدة) ابنة حياة، صاحبة القدرات، قارئة المستقبل، كاشفة الغيب والمستور، رمز الإنسان في كماله الأول.

تبدو جميع الشخصيات وكأنها ابنة المكان، نبتت فجأة داخله، وخلقت لأجله، لم يخبرنا الفيلم عن أسباب تواجدهم في البنسيون، أو تاريخية العلاقة بينهم، فكل هذا لا يهم، فهم هنا وكفى، مجرد أفكار مجردة حاضرة في حضرة حياة، ومجتمعة على حب فريدة. 

هنا وصل يحيى مصادفة، محملًا بكل إحباطه وفشله وبحثه وتجربته غير المكتملة في عالمه الأرضي، وكأن المكان كان في انتظار معراجه، ليحتويه مع ساكنيه في نعومة ويهبه بعضًا من طمأنينة، فيحيى هو الركن الأخير لتكتمل المنظومة.. المعرفة.

يظهر عالم آخر مقابل عالم البنسيون، عالم خانق، أمكنة معلومة ومحددة (القاهرة والإسكندرية)، يحاول الفيلم من خلالها أن يقدم القسوة والحيرة والضيق، يستخدم المخرج داخلها زوايا تصوير ضيقة للغاية، تكاد تلامس أوجه الممثلين، عكس زوايا التصوير الرحبة، المفتوحة على اتساع المكان في البنسيون، وكأننا أمام عالمين لا يلتقيان، متلامسين ولكن بينهما برزخ لا يبغيان، لا صلة بينهما سوى واقعنا نحن كمشاهدين. فمجرد أن ينتقل إحدى الشخصيات إلى العالم الآخر، تتغير أحواله، من صفاء إلى كدر، ومن رضا إلى معاناة وكبد.

حبيب الله يراهن على حورس

حبيب الله، الخادم النوبي المراهن على الخيول، خاصة على (حورس) الذي تدله عليه فريدة، بقدراتها غير العادية، فتخبره أن "حورس هو الربحان في السبق"، وعليه أن يراهن عليه. فداود عبدالسيد يلقي فكرته الأصيله بشكل عابر في الأحداث، في حوار لم يستغرق ثواني معدودات، بين فريدة وحبيب الله، فحورس هو الرهان الحقيقي، والمكسب الأكيد. هو الفكر المصري القديم، التوحيد في شكله الأول، ففي هذه المرحلة من تاريخ الحضارة كان الإنسان أكثر وضوحًا ووعيًا، قبل التعددية التي أصابته في مقتل الخلاف والاختلاف.

كما جاء اختيار شخصية النوبي متسقة تمامًا مع الهدف، فهو الأصل وهو "حبيب الله" وهو المزج بين القدرية المميزة للشخصية النوبية والحظ (الرهان)، وفي مشهد عبقري، عندما يفوز حبيب الله في سباق الخيول، يرقص على شاطئ البحر، على أنغام موسيقاه الداخلية، والتي حينما نسترق إليها السمع، نجدها موسيقى نوبية، وكأنه يُحيّي الوجود و(الست فريدة) ـ كما يناديها ـ  وحورس، ونفسه الأصيله قبل كل شيء.

يحيى يضيء حياة بنوره

تطورت علاقة يحيى وحياة بشكل سريع، خاصة بعد اكتشاف يحيى لقدرات فريدة، فتحولت اللقاءات العابرة في الإسكندرية، والتي كانت تتم وكأنها قدر محتوم، إلى لقاء جسدي، تنساب فيه دموع حياة في أقصى درجات المتعة، وكأنها تتعرف ولأول مرة على متعة الوجود. الملفت في الأمر أن هذه العلاقة قد تمت في العالم الأرضي (الإسكندرية)  وخارج حدود عالم النقاء (البنسيون)، فالحياة لن تدرك ذاتها إلا من خلال الإنسان وفي الغواية السفلية، وكأن داود يحاول إعادة إنتاج علاقة آدم بحواء في أرض الخطيئة والمعرفة.

رغم محاولات حياة أن تختزل علاقتها بيحيى إلى مجرد رغبة جنسية بين رجل وامرأة، فأبى يحيى إلا أن يتم نوره بداخلها، فقد لاحظ سكان البنسيون وفي لحظة انقطاع الكهرباء، وعلى أضواء الشموع الخافتة، أن حياة قد ازدادت جمالًا وبهاء، وكأن نور يحيى أضاء ظلمة حياة، فأشرقت. ولم يعرف سر هذا الإشراق إلا فريدة، بقدراتها غير العادية، وبابتسامة أخفتها عن الجميع.

 

فريدة تلبي دعوة جبريل

السيرك جزء أصيل في تكوين ميثولوجيا قدرات غير عادية، فهو دائم الظهور أمام البنسيون، بملابس أبطاله المبهجة، وألوانه الزاهية. ويبدو أن شخصيات السيرك تربطهم علاقة حميمية بسكان المكان، وخاصة علاقة بطل السيرك ومهرجه (جبريل)، بـ(فريدة)، فهم دائمًا مرحب بمرورهم أمام البنسيون. وعلى العكس تمامًا فالسيرك بأكمله مرفوض في بقية الأحياء المجاورة، فالأهالي يغلقون أبوابهم ونوافذهم فور مرور السيرك أسفل منازلهم، ويتعاملون معهم بعنف شديد ويقذفونهم بالحجارة، بتحريض من أشخاص لهم سمت ديني متشدد، بلحاهم وسيماهم الجافة العنيفة.

السيرك و(جبريل) تحديدًا، له دلالة قوية في بنية العمل، رغم الدور المحدود في الأحداث، فالرسام (راجي منصور) يحاول دائمًاً رسم السيرك، ولكنه يفشل لأن "عم جبريل بيتحرك بسرعة" كما أخبرت فريدة يحيى. فالفن لن يستطيع تجميد (جبريل) لتخليد صورته. والأهم أن جبريل هو صاحب التحول الأصيل في مسيرة الأحداث، ففي ذات يوم قرر أن يوجه الدعوة لفريدة، لحضور عرض السيرك، وبالفعل لبت فريدة دعوة جبريل، ومعها كل شخصيات البنسيون، بالإضافة إلى يحيى. وما حدث هناك، كان السبب المباشر في الانتقال إلى مرحلة الصراع. 

أثناء العرض، وجبريل يقدم فقرته الساحرة، متحركًا بخفة ومهارة المحترف، فجأة توقفت أدواته في الهواء، وبدأت تتحرك خارج إرادته، أو بالأصح بإرادة صاحبة القدرات، فريدة. وهنا بالذات توترت الأجواء، ففريدة تعلن عن قدراتها أمام الجميع، وببهجة  طفلة عابثة، تفوقت على ألاعيب السيرك، وقدرات جبريل المختلفة بحكم العادة، والتي بدت أمام ما فعلته فريدة، قدرات عادية جدًا.

في تلك الليلة بالذات، وبعد عودة فريدة وصحبها إلى البنسيون، تبعهم أبطال السيرك كلهم أجمعون، وعلى رأسهم (جبريل)، ليقفوا جميعًا شاخصي الأبصار تحت نافذة فريدة، التي تخرج عليهم بملابس بيضاء، وتحوطها هالة من نور، وفي مشهد أسطوري، ينحني لها كل أبطال السيرك في تقديس، وكأنهم الملائكة لحظة سجودهم لبديع صنع الله، الإنسان. وهنا بالذات تنفتح الدلالة على اتساعها، لتستوعب كل الأفكار والرموز الممكنة، فالملائكة الذين رفضهم البشر في عالم الأرضي، وقذفوهم بالحجارة، سجدوا ذات يوم هناك في عالم السماء أمام آدم، صاحب الكرامة والأمانة والقدرات غير العادية.

لحظة التقديس تلك كانت اعترافًا ضمنيًا بأصالة هبة فريدة، وخصوصيتها، أمام موهبة جبريل وجماعته، وفي المقابل مثلت لحظة الخطر الحقيقية على الجميع، فهناك وعلى حدود عالم فريدة النقي، من قرر أن يقتحم البرزخ بين العالمين، ويحطم عالم فريدة من أساسه، هناك ينتظر (عمر البنهاوي) رمز السلطة والنظام، الذي رأى في قدرات فريدة، حرية خارج السيطرة، وعليه أن يمسك بزمامها قبل أن ينهار عالمه المحدود بسلطانه.

عمر البنهاوي وفريدة ابنة الشيطان

الشيطان كان حاضرًا بقوة في عالم "قدرات غير عادية "، عمر البنهاوي هو لحظة الشك الكبرى التي مر بها الشيطان، حينما قرر الثورة ضد الإنسان، فعمر الذي قرر التشكيك في قيمة فريدة وموهبتها، بزعمه أنها ابنة الشيطان، يذكرنا بموقف الشيطان من آدم صاحب الهبة والمنحة الإلهية، ومحاولة تدنيس قدراته غير العادية، ليؤكد أنه صاحب الحظوة الحقيقي.

فيلم قدرات غير عادية، عالم متكامل من الصراع الإنساني، يجعل من الغواية والضعف واليأس، طريقًا للوصول واليقين والإيمان والحب.

فعالم داود عبدالسيد يذكرنا بلعبة "البازل"، لن يُدرك إلا بعد اكتمال الصورة، ميثولوجيا سينمائية ذات فصول متتابعة، تبدأ برحلة آدم في "أرض الخوف"، ليتلقى "رسائل البحر" في أقصى لحظات الضعف، وصولًا للمعرفة الكاملة بقدراته غير العادية.