رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في آخر حوار له.. يسري الجندي: «وجدت الله في أمي وأؤمن بالمواهب الربانية»

يسري الجندي
يسري الجندي

قبل رحيل الكاتب الكبير يسري الجندي، أجرت الدستور معه حوارًا حول «الله في حياة الكاتب الكبير»، وتحدث «الجندي» عن أنه كتب فى صباه كشكولًا صغيرًا عن الوعى الإنسانى بحثًا عن الله، لكنه فشل فى الوصول لإجابة، فاتجه إلى الاهتمام بالتصوف وكتب الفلسفة محاولًا الوصول إلى ما يريح قلبه، لكنه فشل أيضًا، وأيقن فى النهاية أن ما سعى إليه «مستحيل»، لاعتماده على عقله فقط، بينما الروحانيات والوجدان هما الطريق الوحيد لمعرفة الله.

هذا ما يؤمن به الكاتب المسرحى والدرامى يسرى الجندى، الذى اعتاد فى صغره الجلوس أمام المحال التجارية فى الصباح الباكر لكى يستمتع بسماع صوت الشيخ محمد رفعت ينساب خارجًا من المذياع، ثم يعود للبيت حيث والدته تقص عليه الرؤى التى تتحقق.

هناك فى دمياط عاش هذه الحياة، وكون تصورات عن الله والطريق إليه، والصوفية والأولياء، واستخدم ذلك كله فى تجاربه الأدبية والمسرحية، وأصبح لديه العديد من القصص والأفكار الفريدة، التى يستعرضها فى الحوار التالى مع «الدستور».

-كيف كان تصورك الأول عن الله؟

- الاهتمام بقضايا الوجود، بما فيها تصورى عن الذات الإلهية، صاحب فترة الصبا كلها بالنسبة لى، حتى إننى أرهقت أساتذتى أسئلةً وبحثًا، وأذكر أننى وقتها كتبت كشكولًا صغيرًا عن الوعى الإنسانى، وكيف يتأتى؟ باعتباره محل تساؤل، وأيقنت فى النهاية أن هذا الأمر هو ما فشل فيه الكل، وأن هذا السؤل ظل بلا جواب إلى الآن.

فى ذات الوقت، دفعنى هذا السؤال للاهتمام بالتصوف، فكل الأفكار الوجودية التى شغلتنى فى تلك الفترة، ومن بينها: كيف بدأ الكون؟، وغيرها من الأمور التى شغلتنى وأرهقتنى بحثًا، جعلتنى ألتهم كتب الفلسفة محاولًا الوصول إلى ما يريح قلبى ويطمئن تساؤلاته بإجابات ربما هى ليست وافية بقدر الإمكان لكنها فى حد ذاتها إجابات، ويعتد بها بهذا الشكل وتلك الكيفية.

وفى النهاية أيقنت بأن ما أسعى إليه «مستحيل»، ولا أحد يستطيع أن يلم أو حتى يضع تصورًا ملائمًا لهذه التساؤلات جميعها، حتى الفلسفات بتوجهاتها المختلفة، المادى منها والمثالى وغيرهما، كلها فشلت فشلًا ذريعًا وأخفقت جميعها فى الإجابة.

وإخفاق الفلسفات هذا هو إخفاق للعقل البشرى بالكامل على مر العصور، وتأكيد كبير لمحدودية هذا العقل، لذلك ظل التساؤل متواترًا حتى الآن، لكنه أسهم فى اتجاهى إلى أداة معرفية أخرى بخلاف العقل، وهى أن أفكر بوجدانى وليس بعقلى.

ففى الأساس، كانت المعرفة الوجدانية هى السبيل الوحيد للتعرف على التصوف الحقيقى، ومن هنا رحت أقرأ مؤلفات «ابن عربى»، الذى عجزت فى البداية عن فهمه تمامًا، لأننى حاولت فهمه بعقلى وليس بوجدانى، حتى أيقنت أن هذا الفيلسوف والمتصوف العظيم يحتاج إلى معرفة وجدانية حقيقية، وبصفة عامة أنا مؤمن بأن التعرف الوجدانى هو الطريق الحقيقى لله.

- هل أسهمت مدينة دمياط التى ولدت وعشت فيها فى معرفتك بالله؟

دمياط ليست مدينة عادية، ولم تكن أبدًا عادية فى ذلك الوقت، هى مدينة تاريخية عظيمة، ولها عمر يتجاوز الـ3 آلاف عام، وكانت من أهم الموانئ فى مصر، لذلك كان لا بد أن تستقى ثقافة البحر المتوسط، مع مزجها بثقافات أخرى طبقًا لنوعية الوافدين.

كما أنها لم تغفل الفكر العربى القديم، ولها الفضل الكبير علىّ فى أن بذور فكرى نبتت هناك، لأن تلك الثقافات الغنية والكبيرة كان لا بد لها من أن تستثير شخصًا مثلى، عن طريق الاحتكاك الكبير بين الحضارات المختلفة، مثل الشوام والإيطاليين واليونانيين.

وفى هذه الفترة، كان ذلك السؤال البديهى: «من الذى خلق الله؟» حاضرًا، حتى أدركت وجود المدارس الفلسفية، التى تحاول إقامة أبنية فكرية تُجيب فيها على الأسئلة الوجودية وفشلت، وقرأت المتصوفة الحقيقيين، الذين كانوا فى مجاهدة حقيقية لكى يصلوا إلى إجابات عجز عنها الفلاسفة، وأبحرت فى علم التصوف وأعلامه، وكتبت «رابعة العدوية» من أجل هذا الفهم، لذلك هناك الكثير من الأفضال لهذه المدينة على شخص اسمه يسرى الجندى.

- وسط هذه الأجواء.. من الشخص الذى وجدت الله فيه؟

كان أول من وجدت الله فيه هو أمى، وليس لأنها أمى، لكن لأنها كانت تملك شفافية غريبة جدًا أدهشتنى أنا شخصيًا، كانت أمى تحلم وتحكى لنا الحلم فيحدث، ولو لم يحدث كما حلمت به، فإنه يفسر بالرمز الذى يشير بشكل أكيد لما حلمت به مسبقًا.. كانت تملك توافقًا غريبًا أذهلنى أنا شخصيًا، كانت تملك تلك الموهبة، وكان شيئًا يتجاوز العقل، وهى نعمة وهبها الله للبعض ومنهم أمى.

- هل رؤيتك هذه لوالدتك وما منحه الله لها من «استبصار» أثر فى رؤيتك للأولياء الصالحين؟

- أنا أؤمن أن الله اختص الكثير من البشر بـ«مواهب ربانية»، ومنهم «نوستراداموس» مثلًا، وأرى أن الأولياء لديهم هذه الموهبة، وكذلك بعض المتصوفة، فبعضهم صادق والآخر مدعٍ.

-ما المواقف التى شعر فيها يسرى الجندى بأن الله قريب منه جدًا؟

تعرضت لكثير من المحن فى حياتى، من بينها مرضى، لكن كان لدىّ يقين راسخ بأن الله معى ويرعانى، لذلك كنت مطمئنًا، وكانت نهاية المحنة أن شفانى الله.

وكان لى صديق فى فترة صباى، كنت أحبه جدًا، هذا الصديق هو محمد السلامونى، الذى عاصرنى فى مرحلة قراءاتى الفلسفية، وكنا نلجأ معًا للقراءة فى مؤلفات المفكر الكبير عبدالرحمن بدوى رحمه الله. المهم أمى تنبأت لـ«السلامونى» بأنه سيكون شخصية كبيرة وعبقرية، ليس من واقع مناقشاتنا، لكن من واقع رؤيتها له، قائلة لى: «السلامونى مختوم»، أى أنه يملك من الموهبة الكثير، وأن هناك من يعينه على عبقريته وقدرته، وأنه سيكون له شأن فى المستقبل. بالفعل وصل «السلامونى» إلى أن يكون «العبقرى الدكتور»، الذى تعب كثيرًا بعد وفاة ابنه فى حادث، وفقد قدرته على التفكير.

- ما علاقتك بالقرآن وتلاوته؟ وهل هناك مواقف تذكرها مع المقرئين؟

بالطبع كنت مهتمًا جدًا بالقرآن ومقرئيه، باعتبارهم جزءًا من السياق الأكبر للفن، وأذكر أننى قلت مرة: «القرآن نزل لكى نهتدى به ولكى يقرأه الشيخ محمد رفعت رحمه الله»... كنت شغوفًا به جدًا ومؤمنًا أنه لا يقرأ قراءة عادية، إنما هى موهبة من الله، وحل فى المرتبة الثانية وراءه الشيخ أبوالعينين شعيشع.

لم نكن نملك راديو فى ذلك الوقت، وكنت أستعيض عن ذلك بأن أذهب إلى المحال التى تفتح أبوابها باكرًا فى الثامنة صباحًا، وتحرص على تشغيل المذياع على إذاعة «القرآن الكريم» كاستهلال أساسى ليومها، وفى تلك اللحظة أستمع إلى شيوخى الذين أحبهم، أستمع وأبكى بشدة وكثيرًا، وأشعر بأننى قريب من «قوة كبيرة جدًا»، واستمر هذا الأمر فترة طويلة إلى أن بدأت فى الكتابة.

- ذهبت للكنائس فى أعمالك.. كيف كانت تجربتك معها؟

- نعم ذهبت للكنائس كثيرًا، لكن ما أود الإشارة إليه هو كاتدرائية العباسية، التى ذهبت إليها بدعوة من صديق، وهناك رأيت رجلًا يدعى أشرف تميم، وهو رجل كانت له إرهاصاته فى التصوف المسيحى، لكنه كان مضطربًا وانتهى الأمر بوفاته، لكنى من خلال رؤيتى له عرفت أن هناك شيئًا ما فى داخله، لكن «الأقانيم» لم يفهموا ذلك.

وبصفة عامة، بدأت الكتابة عندى بشكل غريب، بدأت- كما ذكرت- بكشكول عن الوعى، الوعى الإنسانى الذى كان لغزًا كبيرًا، وبعدها بدأت أكتب فى مجلات «الآداب البيروتية»، و«الطليعة المصرية»، و«المسرح» فى زمن رئاسة صلاح عبدالصبور، وسكرتارية تحرير فاروق عبدالقادر.

كتبت عن شكسبير ورائعته «هاملت»، وكان لدىّ الكثير من التصورات والتساؤلات فى هذا الأمر، ثم تحولت إلى الكتابة عن الملمح التصوفى، فلو قرأت «على الزيبق» و«رابعة العدوية» ستجد أن هناك الكثير بالفعل خلف هذه الظواهر، وهذا ما جعلنى أفكر فى كتابة مسرحية «اليهودى التائه» كتراث عالمى، فقد نظرت إلى أن التراث الحقيقى هو للجميع، وكانت مسرحية سياسية لا تخلو من التصوف.

-بذكر التصوف الذى تناولته فى أعمالك.. ما مفهومك عنه؟

كنت أول من قدم عبدالله النديم فى التليفزيون، وقتها هاتفنى عزت العلايلى وهو مندهش، وقال لى إنه لم يكن مدركًا فى البداية لما يحمله هذا العمل من حقائق، وكانت كلها إرهاصات لحالة وجدانية شملت «النديم» نفسه فى حينها.

كان «النديم» أحد المتصوفة فى الحقيقة، لكنه لم يدخل إلى مضمار التصوف، وإن كان خطيبًا للثورة.. هذه الحقيقة كتبتها، فأصبح «النديم» متصوفًا موجودًا فى رحلة هروبه، التى احتضنه فيها الشعب 9 سنوات كاملة، ولم يستطع الاحتلال الإنجليزى، ولا السلطة المحلية أن يصلا إليه إلى أن وشى به أحدهم.

هذا الرجل حين كتبت المسلسل عنه وجدت أنه ملىء بـ«طاقة صوفية» كبيرة جدًا، جعلت منه متصوفًا كبيرًا، بعد كل ما تعرض له من أحداث.. كان لفقدان المرأة التى يحبها ثم فقدان ابنته تأثير كبير فى توجهه، وكان أولاده يموتون فور ولادتهم، وحين أنجب فتاة من المرأة التى أحبها ماتت فى غيابه. عانى كثيرًا بسبب هذا الأمر، هى معاناة وجدانية كبرى، وكان يترجمها عقليًا، لكننى ترجمتها بشكل شاعرى فى إحساس صوفى، والشيخ القصبى المسئول عن حمايته وحماية أفكاره كان يغذى فكره بروح المتصوفة.

أما فى «رابعة العدوية» و«الهلالية»، فوظفت الصوفية برؤية مختلفة، وأيضًا فى مسلسل «التوأم» من بطولة الفنانة ليلى علوى، فقد خلقت شخصيتين إحداهما مادية، والأخرى روحانية، بما يمثل الواقع الصوفى الجميل.. والولى فى نظرى هو المتصوف الحقيقى كما قلت، أما فيما عداه فهم «دجالون»، ولدينا الكثير منهم. فى «النديم» قلت إن العناية الإلهية وفرت له الملاذ الآمن بين الناس طوال ٩ سنوات، وتدخل الشيخ القصبى كان تمهيدًا لتلك النبوءة حين قال له: «من حموك ستحميهم أنت أيضًا يا عبدالله».. قالها على أساس تصوفى روحانى، وبالفعل تحققت النبوءة ولم يشِ «ابن النديم» عمن حموه سابقًا.

فى أعمال أخرى مثل «الطارق»، هناك الرجل الأعمى الذى تنبأ لـ«ابن زياد» بأنه سيكون له شأن فى الإسلام، ولم يكن «ابن زياد» قد أسلم بعد، وفعل حين التقى بالمسلمين، وتأكدت النبوءات.

والنبوءة هى وجه من أوجه المعرفة الروحية الوجدانية، وستجد أن فى كل عمل من الأعمال الكبرى هناك نبوءات، حتى فى الأعمال الاجتماعية وظفت النبوءات.. فى الأخير وظفت النبوءة، ولا أزعم أننى وصلت لمرحلة المتصوفة، لأن المجاهدة محاصرة فى واقع مؤلم وبشع، فأنا لم أصل ولكن إيمانى قوى بالله وأنه موجود ومسيطر ومهيمن وخلف كل حركة البشر.