رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدارس حل تناقض المعقول والمنقول

بعد تصنيف ما نُقل لنا من نصوص قدّسها الأجداد الأولون إلى مقبول ظن فيه الأجداد صحة النسبة لقائليه غالبًا، ومردود مرفوض غير ثابت، أو مكذوب كذبًا صريحًا. فأما ما رفضناه، فهو كلام كأى كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولا إشكال فى نقده كأى نص أدبى.

ولكن تكمُن الإشكالية فيما نظن أنه ثابت مقبول النسبة للأجداد، خصوصًا لو كان بعض هؤلاء الأجداد القدماء تظن فيهم جموع كثيرة القدسية والقداسة، فيصير الأمر بالغ الحساسية بالمجتمع المؤمن بتلك القداسة والمسلم بهذه القدسية، وبالطبع لا قدسية لدى الشعوب المتدينة تعدل النصوص الدينية، فمنزلتها فوق كل مقدس لدى المؤمنين بها. 

وبالنظرة السريعة لتلك النصوص التى ورثناها نجد فيها معانى كثيرة مفيدة وجيدة وصحيحة، وفقًا لمناهجنا العلمية والقيمية المعاصرة، وهذه المعانى جميلة لا إشكال فيها، ولو وجدت بعض المشاكل فى كل ما سبق فهى مشاكل بسيطة يسيرة، وحلها سهل بقبول الجميل، وردّ غير الثابت على صاحبه، والسلام. 

ولكن يظهر الإشكال الكبير عندما تتناقض الحقيقة العلمية الثابتة مع النصوص المقدسة، التى يظن تيار كبير فيها الثبوت والعصمة أيضًا. 

وهنا نجد المفكرين المؤمنين بذلك التراث انقسموا مدارس فى رفع هذا التناقض المشكل، وحل ذلك النزاع المزعج لعدد كبير أيضًا من أبناء الجنس البشرى.

المدرسة الأولى تقول إن تلك النصوص المنقولة لنا هى بنت واقع تاريخى تم تجاوزه من الإنسان المعاصر، وهى نصوص تاريخية لو صلحت فهى تصلح فقط لمعاصريها وهى ملزمة لهم وليست ملزمة لنا. 

والمدرسة الثانية تقوم بمحاولة رفض تلك النصوص ومحاولة جعلها غير ثابتة النسبة لقائليها ومردودة، وملحقة بالضعيف والموضوع، من أجل حماية الحقيقة الدينية من كونها منتهية الصالحية، كأهل المدرسة الأولى. 

والمدرسة الثالثة هى مدرسة تحاول تأويل النصوص الدينية، لتكون موافقة للحقائق العلمية، ومتسقة مع قيم العصر، وهى مدرسة مشكورة الهدف، تسعى لجعل التراث متوافقًا مع حقائق وقيم عصرنا، رغم اتهامها بالترقيع والتزويق والخداع من مخالفيها، لكنى أراها أفضل من المدرسة الرابعة ولا شك.

والمدرسة الرابعة ترى الحقيقة فى التراث وحده والحقائق العلمية والقيم العصرية ينبغى أن يُعاد تفسيرهما، أو تؤولا للتوافق مع تراث أجدادنا العظام، وهى رغم كونها ترفض الحقائق العلمية، إلا أنها أهون من المدرسة الخامسة.

فالمدرسة الخامسة هى سلفية قحة، ترفض أى قيم أو علوم أو معارف، إلا إذا وافقت تراث الأجداد الأقدمين الثابت من وجهة نظرهم، وتلك المدرسة تؤدى بالمجتمع إلى مزيد من التخلف والرجعية والضياع وهى سبب نكبتنا دون أن تشعر، وتدفع الناس المتعلمين نحو المدرسة الأولى القائلة بتاريخية كل التراث دون تمييز بين مقبول أو غيره.

وتظهر مدرسة أخيرة وهى السادسة ذات نزعة وسطية نوعًا، تريد أن يكون مجال التراث المحترم هو الحياة الشخصية للمعتقد بصحة التراث، شريطة ألا تؤدى عقيدته تلك إلى محاولة فرض فكرته على الغير، فضلًا عن الاعتداء على شركائه فى الوطن من المؤمنين بالتراث أو غير المؤمنين به، فيكون المجال الخاص موضوعًا حرًا ما لم يضر بالآخرين. 

ويكون المجال العام موضوعًا للتفكير العلمى العقلانى ولقيم الإنسانية التى طورها الجنس البشرى عبر العصور.