رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبقرية يسري نصر الله

لدينا مخرجون سينمائيون بمثابة مدراس، ومخرجون، مهما صنعوا ما صنعوه من الأفلام، ونشروا ما نشروه من الأفكار والتصورات، عبر الشاشة الكبيرة، فهم تلاميذ في مدارس سبقت أجيالهم أو جايلتهم بالفعل أو حتى تحققت بعدهم.. ينتمي المخرج الفذ يسري نصر الله إلى النوع الأول، ينتمي انتماء خالصا إلى نوعية المخرجين المدارس الذين تتلمذ الآخرون على تجاربهم الفارقة وامتاحوا من أنهارهم السلسالة، ومهما يكن استفاد من غيره، ممن سبقوه أو عاصروه أو ربما برزوا بعده، وهذا طبيعي بالمناسبة، فإنه خلق لنفسه نسقا مميزا عز أن يجاوره فيه آخر، ورسم لخطواته مسارا دقيقا لو سار عليه غيره لسقط!
وُلِد يسري نصر الله في القاهرة في عام 52، ميلاده كان ثوريا طبعا فارتباط التاريخ بثورة يوليو واضح كالشمس، درس الاقتصاد بجامعة القاهرة قبل أن يحصل على بكالوريوس المعهد العالي للسينما في السبعينيات، عمل ناقدا سينمائيا في البداية، ثم كمساعد مخرج ليوسف شاهين وفولكر شلوندرف وعمر أميرالاي، إلى أن قام بإخراج أول أفلامه الروائية الطويلة "سرقات صيفية" في عام 1990، والثاني الشهير "مرسيدس" في عام 1993، بعدهما جاءت أفلامه الذائعة: صبيان وبنات 1995، المدينة 1999، باب الشمس- الرحيل والعودة 2004 (فيلمه الملقب بالأسطوري)، جنينة الأسماك 2008، إحكي يا شهرزاد 2009، بعد الموقعة 2012 (شارك الفيلم في الدورة 65 بمهرجان كان السينمائي العالمي) 
بمحاذاة ذلك قام نصر الله بتأليف عدد من الأفلام المهمة: الوداع يا بونابرت، اليوم السادس، سرقات صيفية، إسكندرية كمان وكمان، مرسيدس، صبيان وبنات، المدينة، وغيرها.. وقام بكتابة السيناريو لعدد من الأفلام المهمة أيضا، من أبرزها فيلمه الذي ألفه "إسكندرية كمان وكمان" (بمشاركة يوسف شاهين في السيناريو آنذاك).. كما مر مرورا لطيفا بالسينما التسجيلية.
اقتران اسمه بشاهين جعل كثيرين، ممن يفتقرون إلى حساسية سينمائية تمكنهم من فرز تجليات الأقمار في تاريخ السينما المصرية من بعضها؛ يخلطون بينهما خلطا جاهلا، في حين أن الواقع السينمائي المنظور ظل يؤكد اختلاف المدرستين، بل وجود بون شاسع بينهما، وبالرغم من أسبقية شاهين، إلا أن نصر الله استطاع اللحاق به وتخطيه فعليا، وهذه غاية التسابق النبيه في دوائر الفنون، أن يدرك مبدع لاحق مبدعا سابقا ويستطيع مجاوزته، والأمر لا ينتقص شاهين، وإنما يعزز بساطته وتفهمه، ولا يعيب نصر الله، ولكن يشهد له بالعبقرية!
لنصر الله آرؤاه الحرة السديدة في صناعة السينما؛ فكم ينتقد الاحتكار الإنتاجي، وقلة التنوع، وثقافة المنع، ويطالب بالعدالة والتعددية والسماح بعرض الأطروحات بلا حجر. 
سينماه، باختصار قادر على تفسير المقاصد، تميزها الحياة الباذخة؛ فغموضها الشفيف يحفز إلى التأمل العميق المفضي إلى الاكتشاف، وقضاياها الجامحة تولد إرادة التغيير، وجمالياتها الفريدة تبتعث القوة واللذة، بكلياتهما، في نفوس المتفرجين..