رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تراثنا نملكه ولا يملكنا

 

قال عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عن لغتنا العربية، إنها جميلة ويسر لا عسر، وإن لغتنا العربية نملكها ولا تملكنا. وكذلك نقول عن تراثنا المنقول عبر القرون لنا، إننا نملكه ولا يملكنا، نأخذ منه كل نافع جميل، ونطرح كل قبيح ضار، وما كان بين ذلك سبيلًا نقدناه وفحصناه، وعدلنا ما يقبل التعديل، وأقمنا المعوج منه واستبقيناه أو تركناه شاهدًا على وعى أجدادنا، لنتأمل كيف تطورنا، ونعرف حركة تاريخنا وفكرنا.

ولكن ما التراث المقدس لدينا الذى يحتاج منا لأن نمحصه حتى يكون مفيدًا نافعًا؟ كما ذكرنا كل منقول لنا من الأجداد الغابرين هو تراث ثقافى ودينى وفكرى، لكن ليس كله مقدسًا، ولا ريب، فالتراث المقدس هو ما شهدت له غالبية شعب ما بكونه مقدسًا، وظنت أنه منسوب لما هو فوق البشرى أو الإلهى، وقديمًا قدس الأجداد نصوصًا متناقضة وأفكارًا شتى تتعلق بالطبيعة، وما وراء الطبيعة، لكنها زالت وأصبحت تاريخًا، وباتت أثرًا بعد عين.

وبقى لنا تراث الإبراهيميين وأفكارهم فقط لعنصرى الأمة المصرية المسلمين، وهم الغالبية، والمسيحيين وهم بالملايين، وآلاف من أديان أخرى ليسوا ذوى نفوذ كبير فى ساحتنا المصرية.

فما تراث المصريين المنتسبين للأديان الإبراهيمية؟، نجد على رأس القائمة القرآن الكريم الكتاب المقدس عند الأغلبية المصرية المسلمة، والعهدين القديم والجديد، وهو الكتاب المقدس عند المصريين المسيحيين، وكلا الكتابين منسوب للسماء عند المؤمنين بهما نسبًا جازمًا، ولكن لكل كتاب منهما تفاسير عدة، وحول كل منهما تأويلات كثيرة لرجال الدين، فيها من التناقض ما فيها، ويذهبون فى توفيق تلك التناقضات والاختلافات مذاهب شتى، وسبلًا صعبة ويسيرة.

ويأتى الكلام والأحاديث المنسوبة للأشخاص المقدسة عند كل فريق، فنجد فى الإسلام السنى كتبًا معتمدة كثيرة، الكتب التسعة، وعلى رأسها صحيح البخارى وصحيح مسلم، وبعدهما السنن الأربعة للنسائى والترمذى وابن ماجة وأبوداود السجستانى، وموطأ مالك، ومسانيد ابن حنبل والدارمى، وغير ذلك كثير من كتب التاريخ والسنن الأقل شأنًا مما سبق، ولها معايير وضعها رجال الدين الإسلامى السنى للقبول والرفض من قرون، ويلحق بها الكتب التى ألفها رجال الدين عبر العصور، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة وأتباعهم من أحناف ومالكية وشافعية وحنابلة، والخلافات فى كل ما سبق بين رجال الدين السنى كثيرة، ما بين قبول أو رفض لتلك المرويات فى هذه المدونات التى نقلت لنا شفاهيًا أولًا لعشرات السنين، ثم دُوّنت فى مكتوبات ومخطوطات مع نهايات القرن الثانى من وفاة النبى الكريم، ثم انتشر وكثر التدوين للمرويات فى القرن الثالث وما بعده، فصارت لدينا عشرات الآلاف من المرويات المنسوبة للنبى الكريم وصحابته وأهل بيته وتابعيهم، وهم كثير، وفوق تلك المرويات التى لا نكاد نحصيها ما كتبه الفقهاء بداية من القرن الثالث الهجرى من كتب الفقه المذهبى الملتزم بالمذاهب الأربعة سابقة الذكر، وكذلك المتحرر من المذاهب الأربعة التقليدية المذكورة، ونضيف لكل هذا ما كتبه رجال الدين والتفسير من شروح ومحاولات، لتبيين الغامض والمتناقض من كل تلك الروايات. 

ويضاف لكل ما سبق كلام رجال التصوف والوعظ، والدعاة والخطباء، مما شكل وعينا الجمعى عبر قرون طويلة، حتى صار كل ذلك مقدسًا أو شبه مقدس عند كثير من أبناء مصر المحروسة.

وشاعت من كل هذا مختارات معهودة وآراء مقبولة عند غالب رجال الدين وعند أتباعهم صارت تشكل المقدس الشعبى الإسلامى المتسنن، وكل فترة نجد مفكرين ينتقدون ذلك الموروث، ويقبلون منه ويرفضون أو يعيدون التأويل والقراءة والتفسير للتوفيق مع العقل والواقع من جهة، ولمحاولة رفع التناقض وإزالة الاختلاف من جهة أخرى. وظهر مجددون ومبدعون يحاولون إعادة النظر فى كل ذلك التراث المنقول لنا من المرويات وتفاسيرها، وعلى رأس كل هؤلاء من رجال الدين الأستاذ الإمام محمد عبده، وبعده المراغى، وأمين الخولى، ومحمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدى، وغيرهم وكذلك من مفكرينا العظام كعميد الأدب العربى طه حسين، ومحمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبوزيد، وحسن حنفى، وغيرهم كثير أيضًا، كل هؤلاء يحاولون الجمع بين العقل وهذا النقل الكثير بطرق شتى، فما العقل وما سبلهم فى الجمع؟.. هذا هو حديثنا المقبل.