رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بولس فهمى والمواطنة


أصدر الرئيس السيسى قرارا بتعيين المستشار بولس فهمى إسكندر رئيسا للمحكمة الدستورية العليا. فهل هناك علاقة بين هذا القرار وبين المواطنة؟ بداية فدستور ٢٠١٤ وفى مادته "٥٣" لا يفرق بين مصرى وآخر بسبب الدين أو العقيدة أو اللون أو الجهة.. إلخ، أى أن المصريين يتساوون فى الحقوق وفى الواجبات. كما أن القانون لا يفرق بين مصرى وآخر، ولكن ، ولكن إيه بقى؟ القضية الأساسية هى بعض الموروث الطائفى  التاريخى الذى كان يفرق بين مصرى ومصرى آخر بسبب الدين وغير الدين. وهذا الموروث الطائفى نشأ وتراكم فى ظل أنظمة حكم لم تكن تعرف ما يسمى بالديمقراطية أو المساواة أو المواطنة. فهذه مسميات وتغيرات وتطورات مرت بها الأنظمة السياسية طوال التاريخ. كما أنه قد جاءت إلى مصر أنظمة حكم غير مصرية، سواء كانت تحمل اسم الإسلام وهى لا علاقة لها بالإسلام على أرض الواقع أو غير ذلك من النظم الاستعمارية التى كانت تعلى من شأن غير المصرى على المصرى. ومثل ذلك فى بداية دخول الإسلام مصر كانت المعاملة تفرق بين المسلم الوافد من الجزيرة وبين المصرى الذى اعتنق الإسلام بعد دخوله مصر. كانت الجزية تفرض فى بعض الأوقات على المصرى المسلم وغير المسلم لصالح الدولة الحاكمة غير المصرية. هنا ومن الطبيعى أن يكون مثل هذا المناخ الطائفى متعدد الأشكال ومتنوع الأساليب يصيب غير المسلمين من المسيحيين. فكانت تفرض الجزية على المصريين المسيحيين ولم تلغ تلك الجزية إلا عام ١٨٥٥. كانت تفرض عليهم أساليب اضطهاد غير إنسانية فلا يسبق غير المسلم المسلم. ولا يعلو بيت غير المسلم على المسلم . فلا يركب المسيحى دابة ويمر على المسلم قبل نزوله. وعلى غير المسلم أن يعلق فى رقبته جرسا حتى يعلن عن نفسه حتى لا تتم معاملته كالمسلم . كان على المسيحى أن يدفع الجزية مقابل عملية الدفن، فكان تصريح الدفن يقول "يصرح بدفن الكافر ابن الكافر الذنديق ابن الذنديق الكلب ابن الكلب فلان الفلانى" (لدينا وثيقة بذلك)، لم يكن هناك تصريح ببناء الكنائس غير الموجودة أثناء الفتح. ولم تنته كل هذه الممارسات التى لا تعرف روح الإسلام ولا سماحته ولا مقاصده العليا بغير صدور الخط الهمايونى "وهو وثيقة شبه دستورية صدرت من الخليفة العثمانى نتيجة لصغوط الدول الأوربية حين ذاك". بعد ذلك تم تجنيد المسيحيين فى الجيش. وأصبح منهم "وعلى أرضية طبقية واقتصادية تابعة للسلطة" من حمل لقب بك ثم باشا. هنا حدث تغير فى المناخ الطائفى الاضطهادى إلى مناخ طائفى سلوكى. وكانت الذروة عام ١٩١١ عندما عقد المؤتمر القبطى فى أسيوط وتم الرد عليه بعقد مؤتمر إسلامى مواز. لكن ولأن المعدن المصرى الأصيل نتيجة للجين المصرى المشترك استطاع أن يحاصر هذا المناخ الطائفى، الذى تمثل فى بعض الأحزاب والصحف القبطية فى مواجهة الأحزاب والصحف الإسلامية. وكانت الذروة التاريخية التى عبرت عن المعدن المصرى أحداث ١٩١٩ التى وحدت الشعب حتى أصبحت هذه الأحداث أيقونة سياسية مصرية. وهنا لا نستطيع أن نسقط تلك الممارسات الطائفية للاستعمار البريطانى الذى كان يحدث الفتن والتفرقة بين المصرى المسلم والمصرى المسيحى خاصة فى ثلاثينيات القرن الماضى. ظلت هذه الورقة وما زالت يتم التلاعب بها عند اللزوم من قوى سياسية ودينية متنوعة تريد التفرقة باسم الدين. وكانت نتيجة لذلك الموروث أن أصبح عرفا عدم وجود مصرى مسيحى فى أماكن كثيرة لا داعى لذكرها الآن. لأنها عرفا كانت قاصرة على غير المسيحى. ولكن التطور الطبيعى الذى يدرك حكمة التعددية الدينية التى أرادها الله ومع ظهور مسميات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة. أصبح العالم كله بكل أنظمته يسعى لتأكيد وتطبيق تلك المسميات. وبعد ٣٠ يونيو وبكل موضوعية وكمعارض سياسى أقول إن نظام يونيو قد أدرك أن التوحد المصرى لن يتحقق بغير التلاحم والاصطفاف لكل المصريين على أرضية المواطنة التى تتحقق بالتراكم نظرا لهذا الموروث الطائفى الذى حدث بالتراكم أيضا. وجدنا الضربة الجوية لداعش عندما تم قتل الشهداء المسيحيين. وجدنا السيسى يتصدر عزاء شهداء الكنيسة البطرسية. شاهدنا السيسى يعتاد على حضور قداس عيد الميلاد كسابقة تاريخية. كان قانون بناء الكنائس الذى يمثل خطوة مهمة فى طريق طويل عانى منه الجميع. هنا نأتى إلى تعيين بولس فهمى بولس. فليست هذه المرة الأولى التى يعين فيها مسيحى فى موقع قضائى هام. ولكن أخذ موقع رئيس الدستورية أهمية خاصة، كون الدستور يقول إنه فى غياب رئيس الجمهورية والبرلمان يكون رئيس الدستورية رئيسا مؤقتا للجمهورية. أى أن هذا القرار تجاوز الحاجز الطائفى بقفزة وليس بخطوة. هنا وأخيرا وبكل صراحة أقول "آسف" لاستعمال تعبيرات طائفية لا أؤمن بها  وأتجاوزها دائما ولكن فرضت نفسها فى التحليل التاريخى. ثانيًا: الأهم هو ألا نتعامل مع القرار على أرضية طائفية، فيأخذ المسيحى القرار على أنه انتصار. هنا يتقبل المسلم الموقف على أنها هزيمة. فهذه هى الطائفية بعينها. وعلى هذه الأرضية لن نقضى على الطائفية الموروثة ولا غير الموروثة. ولكن نأخذ القرار على أرضية وطنية ودستورية وقانونية تختار الأصلح والاكفأ والأقدر دون النظر للدين أو اللون أو الجهة.. إلخ. هنا نكون قد وضعنا القرار فى وضعه السليم الذى يقصد فيه صاحبه التأسيس لتطبيق المواطنة الحقيقية على أرض الواقع تخطيا وإسقاطا لموروث طائفى مرفوض حتى نحقق الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة. دولة كل المصريين. حمى الله مصر وشعبها العظيم.