رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة ساكنى الأوليمب الذين شرفوا معرض الكتاب «3-4»

 

تمثل زيارة أثينا حلمًا، فالمدينة هى الأقدم من بين دول العالم، وهى الأكثر تأثيرًا فى الحضارة الإنسانية. 

استغرقت المسافة من مطار أثينا الدولى إلى مقر إقامتنا فى فندق «فينيكس» حوالى عشرين دقيقة، حيث يقع الفندق فى منطقة جليفادا، وهى أقصى الجنوب الشرقى لأثينا، يطلقون عليها الريفيرا اليونانية، وطوال الطريق تنتشر الخضرة والأشجار التى تختلف كثافتها وتدرجات خضرتها، لكن المميز هو عدم ارتفاع كل المبانى التى مررنا بها، وهذا أيضًا ما يميز المبانى، سواء كانت منازل أو فنادق أو مكاتب فى ضاحية جليفادا، التى تتلون مبانيها باللون الأبيض، الذى يمثل جزءًا أساسيًا من العلم اليونانى، حيث يتقاطع الأبيض مع الأزرق، فى تفسيرات عديدة، حيث الخطوط الزرقاء تمثل كلمة «أو الموت» والخطوط البيضاء تمثل كلمة «الحرية»، لتشكل تلك الخطوط جملة «الحرية أو الموت». وهناك من يقول إن اللون الأزرق يمثل السماء، واللون الأبيض يمثل البحر. 

تمتد ضاحية جليفادا من سفوح جبل «هيميتوس»، الذى بهرتنى خضرته الغنية وتدرجاته اللونية إلى خليج سارونيكو، تأسست الضاحية الحديثة فى أواسط القرن الماضى كمركز لضواحى أثينا الجنوبية، وسرعان ما أصبحت منطقة للأغنياء وحيًا للأعمال نظرًا لموقعها الجميل على ساحل خليج سارونيكو.

تحتل جليفادا موقع بلدة إيكسونى الإغريقية القديمة، ويقال إنها من أكثر الضواحى اليونانية تبنيًا لنمط الحياة الأمريكية، نظرًا لوجود قاعدة جوية أمريكية بالقرب من المدينة فى الثمانينيات، الأمر الذى أسهم فى تبنى السكان بشكل أكبر الثقافة ونمط الحياة الأمريكى، وهذه مقولة لم أختبر صدقها، فعدا وجود المطاعم الأمريكية الشهيرة، لم ألحظ شيئًا زائدًا، فقد كانت هناك مطاعم يونانية، ومطاعم تركية تقدم الوجبات الحلال أيضًا، وهى سمة لاحظت وجودها فى المدن الأوروبية التى زرتها، خاصة باريس، حيث انتشر وجودها مؤخرًا وكلها مطاعم تركية، ولم أقابل هناك مطعمًا عربيًا واحدًا.

فى أثينا ركبنا كل أنواع المواصلات، الأتوبيس السياحى ذا الدورين، والذى يقوم بجولة بطول الساحل الأثينى وداخل المدينة، ورغم طقس اليونان المعتدل، إلا أن الشمس شديدة السطوع، وكنت قد اخترت أن أجلس فى الدور الثانى؛ للتمتع بمشاهدة البحر ومعالم المدينة دون حاجز زجاجى، وتسبب هذا فى تعرض جلد ذراعى للالتهاب والاحمرار، الذى تحول لسمرة ظلت مرافقة لى حتى بعد عودتى للقاهرة بأسابيع. 

وركبت المترو من أجل الوصول إلى ميدان «سنتجما» أهم ميادين أثينا، حيث حرصنا على التواجد مبكرًا أمام ساحة البرلمان لمشاهدة تغيير الحرس الرئاسى أمام نصب الجندى المجهول، هذا النصب يكرم الجنود المجهولين الذين لقوا حتفهم فى القتال من أجل البلاد. يتميز النصب بنقش من الرخام الذى يقلد شاهد قبر المحارب فى العصور القديمة.

يعرف البرلمان اليونانى باسم البرلمان الهلينى ويقع فى مبنى كلاسيكى جديد مكون من ثلاثة طوابق صممه فريدريش فون جارتنر وتم الانتهاء من بنائه فى عام ١٨٤٣، وكان يستخدم فى الأصل كقصر لملوك اليونان، ولذلك لا يزال يشار له باسم «القصر القديم» بكلمة «آلاجى»، ومعناها حان وقت التبديل، يصيح قائد الحرس اليونانى عند كل ساعة، ليترك حارسين جديدين يقفان على جانبى النصب التذكارى للجندى المجهول وسط العاصمة أثينا- لا يحركان ساكنًا مهما حدث- حتى يحين وقت المغادرة، وتقام هذه المراسم منذ بناء النصب ١٩٦٨.

تجمعنا فى شغف وانتباه لمتابعة مراسم تبديل الحرس التى تتم كل ساعة، تتم المراسم دون كلمة واحدة وبخطوط منتظمة متباعدة، يرتدى الحراس أزياء تقليدية كاملة مع تنورات مطوية وشرابات فى الساق وأحذية pompom، وهو زى مستوحى من حرب استقلال البلاد عام ١٨٢١، والزى مصنوع من خامات خاصة تجعله ثقيلًا جدًا، ويرتدون حذاء مصنوعًا من الجلد الأحمر يعرف باسم «تساروخيا»، يحتوى على عدد كبير من المسامير الصلبة؛ ليعطى الصوت المطلوب، ويضعون على رءوسهم ما يشبه الطربوش الأحمر ويُعرف باسم «فاريون»، والطربوش يرمز إلى «الدم الذى أُريق خلال الحروب»، كما أن خيوطه المصنوعة من الحرير الأسود تدل على «الدموع التى ذُرفت حزنًا على الضحايا». وما يلفت الانتباه أيضًا لغة التخاطب بين الحارس وقائده، التى تستخدم فيها حركة رموش العين، فعدد حركات الرموش يرمز إلى أمور متفق عليها بين الجانبين. وبعد المراسم يقف جنديا اﻟﺤﺮس اﻟﺮﺋﺎسى اليونانى، دون ﺣﺮﻛﺔ أﻣﺎم ﻗﺒﺮ اﻟﺠﻨﺪى المجهول، مهما حاول الجمهور إضحاكهما، أو حاول طفل لمس ملابسهما، إنهما تماثيل آدمية تدل على التقاليد اليونانية، وتجسيد لشعور الفخر بالانتماء لليونان واحترام التاريخ، ومنذ ١٥٠ عامًا تقريبًا، تقوم مهمة هؤلاء الحراس على «توجيه تحية لأبطال الأمة» وتجسيد التقليد ومُثل الحرية والديمقراطية. 

وللحديث بقية..