رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المورد المصرى المسكوت عنه!

إن قصة خروج مئات الآلاف من القطع الأثرية المصرية خارج البلاد هى قصة درامية لها فصول عديدة. بدأت فصولها منذ أكثر من مائتى عام حين لم يكن علم المصريات قد تم تدشينه بعد، وحين كان المصريون لا يعلمون ما تحويه مقابر أجدادهم من كنوز. بدأ قدوم الرحالة الأجانب إلى مصر فى القرن التاسع عشر لرؤية تلك الكنوز وأخذ ما يستطيعون أخذه، وبعضهم عملوا كشافين وسماسرة لمتاحف العالم فى بداية تأسيسها.

بعد كشف غموض اللغة المصرية القديمة وبدء تدشين علم المصريات، اجتاح العالم الغربى هوس البحث عن كنوز القدماء المصريين وراجت تجارة نهب إرث مصر التى لم تقم بتجريم تلك التجارة إلا منذ عقود قليلة فقط.

وحتى بعد تجريم تلك التجارة لم يتوقف الباحثون عن الثروة عن ممارستها سرا حتى اكتظت متاحف العالم بإرث مصر. ولم يتوقف الأمر عند المتاحف، بل اكتظت خزائن هواة الآثار المصرية بآلاف القطع المنهوبة.

(2)

ومن يريد أن يدرك حجم ما تم نهبه فلا عليه سوى أن يطالع المراجع المنشورة عن كل متحف وما يحتويه من أقسام وما يحتويه كل قسم. فسوف يفاجىء المرء بأن نسبة القطع المصرية فى كل متحف من المتاحف الشهيرة قد تتجاوز نصف وأحيانا ثلثى المعروض! وأن بدون تلك القطع فسوف تغلق متاحف عديدة أبوابها!

لقد أصبحت تلك القطع الآن موردا يدر مليارات الدولارات لتلك الدول التى تزدان متاحفها بها. ولقد حاولت مصر فى السنوات الأخيرة أن تتتبع خط سير بعض القطع التى تم نهبها بعد صدور القانون المصرى، ونجحت بالفعل فى ذلك، لكن أحدا لم يقترب من الحديث عما تم نهبه فى القرنين الماضيين وكأن وجود تلك القطع وحرمان مصر من حقها المشروع بها أصبح أمرا واقعا لا يقبل المساس!

(3)

لذلك فإننى أتقدم للدولة المصرية بهذا الاقتراح المشروع وهو المطالبة قانونا ودبلوماسيا بحصة دائمة لمصر من دخل كل متحف فى ربوع العالم يحتوى قطعا من إرث مصر ويجنى من وراء ذلك أموالا طائلة كل يوم!

إذا كان انتقال أى لاعب كرة قدم من نادٍ إلى نادٍ ومن دولة إلى أخرى لم يمنع حصول النادى الذى نشأ فيه اللاعب من الحصول على نسبة مالية فى أى عقد انتقالٍ جديد، فلا أقل من أن تحصل مصر على نسبة عادلة من دخل أى متحف يضع رسوما على مشاهدة إرث مصر!

(4)

وإذا كنا نؤمن جميعا بأن إرث مصر الحضارى هو تراث إنسانى لا يحق لنا أن نحجبه عن أحد، فعلى العالم أن يعترف بحق مصر الأصيل فى هذا الإرث! فإما أن تتعامل المتاحف بنفس المنطق وتجعل رؤية هذه الكنوز مجانية ومتاحة للجميع، أو أن تحصل مصر على حقها المشروع من المتاحف التى تتعامل مع هذا الإرث على أنه مورد دخل يصب فى ميزانية دول لم تفعل شيئا سوى أن بعض رعاياها قاموا بسرقة حضارة أمة!

أما مقتنو المجموعات الخاصة من الأفراد، فعلى مصر أن تختصمهم قانونا. فإما أن يسلموا ما بحوزتهم للمتاحف المختلفة فيصبح هذا الإرث متاحا للجميع أو أن تطالب به مصر!

(5)

ولمن يفغر فاهه عجبا من هذه المطالب ويعتقد أنها جنونٌ خالص أقول، إن اليهود قد جعلوا من أساطير وخرافات عتيقة حقيقة على الأرض بعد أن كان مجرد الحديث عنها جنونا خالصا ولم يملوا من العمل عقودا حتى تم لم ما أرادوا!

لذلك فعلى المصريين أن يبدأوا المطالبة بحقهم المشروع من الآن وأن يكون لديهم من المثابرة وطول النفس ما يمنحهم القوة لخوط الشوط لنهايته. وإن كان لا يوجد بعد إطارٌ قانونى لتلك المطالبة، فعليهم أن يبدأوا فى رحلة عمل دؤوبة لخلق ذلك الإطار القانونى حتى لو استغرق ذلك سنوات أو عقود. فهذا حقٌ أصيل لمصر وهى أولى بذلك المورد لبناء دولتها الحديثة!