رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد القمنى ضحية تنوير زائف

في عام 2009، بعد فوز الدكتور سيد القمني "رحمه الله" بجائزة الدولة التقديرية، وما أثاره ذلك من جدل في الأوساط الثقافية، وردود أفعال متباينة، خاصة التيار الديني الذي قرر شن هجمة شرسة على الدولة ككل متمثلة في وزارة الثقافة، وعلى شخص القمني مباشرة.. حتى إن بعض المثقفين تبنوا نفس موقف الجماعات الإسلامية، لتصفية حسابات شخصية مع القمني.. فتطايرت الصحف بمقالات تدافع وتهاجم وتندد وتشجب.. في حالة من العبث الثقافي المصري، الذي حول أمراً طبيعياً، آنذاك، إلى قضية رأي عام.

من ضمن تلك الصحف "جريدة القاهرة"، والتي كان يترأس تحريرها في ذلك التوقيت.. الكاتب الكبير "صلاح عيسى" رحمه الله، وجريدة القاهرة لمن لا يعلم، كانت من أهم المنابر الثقافية وأكثرها تأثيراً في تلك المرحلة من تاريخ الصحافة المصرية.. وبقيادة صلاح عيسى الذي تبنى موقفا منضبطا واحترافيا للغاية في أزمة سيد القمني.. فكان ينشر له مقالاته وكتاباته، ويسمح بهامش هام جداً من الرأي المعارض لكتابات القمني.. ولكن بشرط أن تكون كتابة محايدة ونقدية.

كنت في ذلك التوقيت من كتاب "القاهرة" بشكل أسبوعي تقريباً، وربطتني علاقة إنسانية جميلة بالأستاذ صلاح عيسى الأستاذ والكاتب الفذ رحمه الله، فكنت أستشيره كثيرا فيما أكتب قبل كتابته أو انتظر رأيه بعد نشره، وكان على أتم الاستعداد لمناقشة كل كبيرة وصغيرة تعن لي، وبصدر رحب.

فاقترحت عليه أني سأكتب مقالاً عن أزمة الدكتور سيد القمني، والذي كنت بطبيعة الحال من قراء كتبه ومتابعا جيدا لأفكاره وتطورها، ولكن المقال سيتناول موقفا نقديا حادا من كتابه الأهم "الحزب الهاشمي"، فوافق بشرط عدم القدح في شخص القمني.. وقد كان.. وكتبت مقالاً طويلاً تحت عنوان "القمني ضحية أساطير المقدس (قراءة في كتاب الحزب الهاشميّ)".

تبنيت في المقال رأياً معارضاً لمشروع الدكتور سيد القمني، متمثلا في كتاب الحزب الهاشمي، واعتبرت أنه مشروعاً فكرياً هاماً، ولكنه سقط ضحية لكتب التراث أكثر منه محاولاً نقدها، فحاول كشف التناقض في التراث الإسلامي بشكل عام، فأصيب مشروعه هو شخصياً بتناقضات كثيرة تحتاج منا إلى تنقيح وإعادة بلورة لفكره ككل.. وحاولت جاهداً أن أتبنى منهجاً علمياً صارماً، حتى لا أقع في فخ الهجوم أو الدفاع عن شخص القمني، كما كان رائجاً وقتها. ومع ذلك أثار المقال حفيظة حواري القمني وتلامذته، ونقلوا له ما كتبت من وجهة نظرهم، واعتبروني مهاجماً قادحاً في مشروعه التنويري ككل.

وصادف أن للدكتور القمني مقالاً في نفس الصفحة التي نُشر بها مقالي، فاطلع على ما كتبت، وفوجئت باتصال من الأستاذ "صلاح عيسى"، بأن القمني قرأ المقال، ويبدو عليه الغضب، لأنه اعتبرني من ضمن الهائجين المهاجمين لشخصه وفكره، في أجواء شديدة التوتر آنذاك، ولكن لفت نظره المنهج الذي كتبت به المقال، وقرر مناقشتي فيما كتبت..

وبواسطة صديقي المقرب الكاتب "أيمن عبد الرسول" رحمه الله، ذهبت إلى بيت الدكتور القمني، وأنا مستعد لهجوم شرس منه، مستنفر الفكر والأعصاب ضد أي رد فعل لا يعجبني حتى وإن اتسم بالمنطقية، والحقيقة كان بيت القمني مفتوحاً لكل مفكر أو كاتب حتى وإن اختلف معه.. ولكني فوجئت بحميمة جميلة في اللقاء، واحتواء أدهشني، تحدثنا في كل شيء، أفكاره ومشروعه ووجهة نظري، والشأن العام، واستمرت الجلسة لساعات، والغريب أننا لم نتطرق للمقال إلا في نهاية اللقاء، فناقشني بهدوء شديد حول منهجيته وطرحي لفكره بطريقة محايدة، لكنه اعتبر أن مقالا بهذه النوعية لن يُفهم في سياق التوتر العام، وقد يستغله بعضهم بشكل مغرض، ورغم خلافه معي، لكنه طالبني باستمرار نقدي كتباته وأفكاره.. وتعددت بعد ذلك جلساتنا ونقاشاتنا، وتعلمت منه الكثير، رغم موقفي الفكري المعارض لكثير من أفكاره، لكنه كان إنساناً رائقاً صافياً، متقبلا كل فكر ونقد واختلاف.

أزمة القمني الحقيقية ليست فيما طرح أو كتب، فقد طرحه قبله وبعده الكثيرون، لكنه كان ضحية استغلاله الإعلامي الذي تعامل بسطحية مع مشروع ضخم، وليس في شخصه رحمه الله، فقد كان صادقاً متسقاً مع نفسه ومن حوله، ولكن في استغلال بعضهم له، واختزاله في قضايا شخصية منحوها صفة التنوير، ودافعوا عن أفكارهم هم من خلاله، ولم يدافعوا عنه بشكل مباشر، بل لم يحاولوا عرض فكره بطريقة واضحة، وكأنهم تعمدوا تشويه ما يقصد.. القمني ضحية نظام دولة في ذلك التوقيت، حاول تصديره أمام فكر التيار الديني المتشدد، فحملوا الرجل ما لا يحتمل من معارك أفسدت عليه فكره وحياته، وأدخلته في مزايدات فكرية سخيفة.

حتى بعد وفاته ظهر العديد من الأفكار السطحية والمتطرفة، سواء التي تحاول فرض هيمنة دينية بمعرفة مصير الرجل الأخروي "جنة ولا نار"، أو المدافعين عنه الذين تورطوا في رد هجوم المتطرفين، والجميع أغفل مشروع رجل آمن بما كتب وصدقه، فللأسف، أغلب المشاريع التنويرية المصرية، تقع ضحية سوء الفهم والتطرف والاستغلال.. فإن أردنا مشورعاً تنويراً حقيقياً علينا أولاً ألا نهدر قوة مثقفينا في معارك وهمية لا طائل منها، وأن نتعامل بحياد حقيقي مع كل ما نختلف منه أو نعتبره مخالفاً لما نؤمن، وأن نحاول جاهدين عدم خوض صراعات سطحية مع متطرفين يحاكمون العالم من منظور مختل ضيق كضيق عقولهم وكأنهم يملكون مفتاح الجنة ونيران الجحيم، والأهم ألا نستغل مفكرينا في مساحات سياسية لن يجيدوا التعامل معها بشكل محترف، وإلا سنقع ضحية مشاريع تنويرية زائفة حتى وإن اتسمت بشيء من الحقيقة، وكأننا أمام لعنة سيزيف.