رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليست مجرد حُلم رومانسي

قررت أن أكتب اليوم مدافعا عن إحدى قناعاتي التي لم نعد نجد لها أنصارا كُثر ممن يؤمنون بها أو يدافعون عنها أو يروجون لها . إنها حُلم "الوحدة العربية " ... لن أندهش إن تمتم أحدهم قائلا : " انت راجل قديم أوي ، وحدة إيه اللي بتتكلم عنها دي ؟ ". و بغض النظر عن الهجوم الذي يتعرض له كل من يحاول إحياء فكرة العروبة ‘ إلا أنني لا يمكنني أن أغير قناعاتي أو أخفيها . فإن فكرة الوحدة العربية - رغم ما تمر به الأمة من انتكاسات – تبقى أملا يراود من يحلمون بغد أفضل لكل الناطقين بلغة الضاد . قناعة لا يهزمها موقفٌ لمتخاذل ولا حتى سياسة ينتهجها فرد أو جماعة أو حزب في أي من الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج . و رغم ما واجهته فكرة القومية العربية من صدمات أدت إلى تراجع أعداد الموقنين بها ، و خفوت أصوات المؤمنين بحتميتها ، إلا أنها ماتزال حلما جميلا يراود معظم – و لا أبالغ بالتعميم و أقول كل – الناطقين بالعربية .  
و رغم هذا اليقين الذي أؤمن به كواحد من 300 مليون عربي على امتداد خارطة الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج ، إلا أن عثرات كثيرة تواجهها فكرة العروبة و حلم التكامل العربي . و لعل أكثر ما يعرقل تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع ، هو إزكاء الروح الوطنية على حساب فكرة القومية التي تراجعت مع كثرة ما تعرضت له الأمة من انتكاسات تركت في النفوس ندوبا و في القلوب جراحا و انتهت إلى الكفر بالقناعات . فمع مرور السنوات ، تغيرت سياسات و تبدلت وجوه  و طرأت على الساحة الدولية أفكار و مسلمات بعد أن كفر بها أصحابها و تراجعوا عنها . 
و تاريخيا مرت فكرة الوحدة العربية بانتكاسات كثيرة تسببت فيها مخططات خارجية أحيانا ، و سلوكيات سياسية من داخل الوطن الكبير ذاته في أحيان أخرى . و للمتبحر في قراءة التاريخ أن يراجع دفاتره ليكتشف كم من المرات كادت الفكرة أن تتحول إلى واقع ، ثم ما لبثت أن تعرضت لصدمات عنيفة - من الداخل و من الخارج - انتهت بها إلى انتكاسة تؤدي إلى تراجعها و خفوت الحلم العربي عقودا طويلة قبل أن يعود ليلح على الجميع من جديد .
و قد اعتدنا أن يلعب بعض المتربصين بالأمة ألاعيبهم كلما بدا في الأفق نوع من التقارب الذي سينتهي بتحقق الحلم . و اليوم – و كالعادة - تمر الأمة بكابوس من هذا النوع . ففي كل بقعة على امتداد خريطة الوطن الكبير تجد جرحا نازفا ، و بقعة للصراع ، و حيوانات متوحشة من آكلي الرمم ينتظرون موت الفريسة للانقضاض عليها و التهامها . و للأسف الشديد تطورت أسلحة المنخرطين في هذا الصراع ، ليتم استخدام القوة الناعمة كإحدى أدوات المعركة "الدونكيشوتية " . 
و المحزن حقا أن هذه القوة من أغنية و فيلم و مسلسل و قصيدة و مقال و رواية و لوحة تشكيلية و حديث إذاعي ، كانت تستخدم لدعم فكرة الوحدة و مناصرة الداعين إليها و تغيير قناعات غير المتحمسين لها . و لكن بعضا من ممثلي هذه القوة الناعمة و رموزها أصبحوا يمثلون اليوم طعنة في ظهر الفكرة و الهدف السامي . فقد انجرفوا ليكونوا إحدى أدوات المعركة ضد العروبة و نسوا تاريخا طويلا تجسد في أفلام مثل " جميلة بوحيرد " لماجدة الصباحي ، و في أغنيات مثل رائعة أم كلثوم " بغداد " ، أو رائعة فيروز " مصر عادت شمسك الذهب " ، أو قصيدة جميل صدقي الزهاوي :  إن العروبة ليس تأمن * غارة المستعمرينا ... إلا بوحدتها ونعم * وسيلة المتفكرينا . أو مسلسلا لمحمد صبحي مثل "فارس بلا جواد "، أو منصة إعلامية وحدوية كإذاعة صوت العرب بشعارها التاريخي " أمجاد يا عرب " .
و قد بذلت مصر جهدا كبيرا على مدار تاريخها للم شمل الأمة ، و خاضت في سبيل هذا حروبا كثيرة و واجهت تحديات أكثر ، و رغم ذلك ظلت رافعة لواء العروبة بثقافتها و بفنها و بإعلامها الواعي . و استمرت إذاعة صوت العرب منبرا يصدح فيه كل أصوات العروبيين . و مع الهزائم المتتالية لفكرة القومية العربية و تراجع حلم الوحدة ظلت هي المنصة الإعلامية الوحيدة التي تخلص لمبادئها و تدافع عنها رغم تندر البعض حينا و نقص التمويل المالي في أوقات كثيرة. بل إن أبناء صوت العرب و المنتسبين لها ظل لديهم حلم أكبر بأن يواكبوا العصر لتتحول منصتهم من منصة مسموعة فقط ليضاف إليها خدمة مرئية و أخرى صحفية الكترونية ، شبيهة بما فعلته هيئة الإذاعة البريطانية لاحقا .
و أتذكر أن الاحتفال باليوبيل الذهبي لصوت العرب في عام 2003 شهد اقترابا من تحقيق هذا الهدف ، لكن تلاحق الأحداث السياسية محليا و عربيا ذهب بالفكرة أدراج الرياح . و لو أن حلما كهذا كان قد تحقق في حينه لوجدنا اليوم منصة مرئية تصد عن العروبة مكائد المتربصين بها و من بينهم بعض أهلها – للأسف الشديد – و آخرين ممن تحركهم أحقاد سياسية يغذيها رغبتهم ف تراجع الدور القومي لمصر ، و تنافس قديم على دور الزعامة للأمة . 
و مع سعي البعض – من هنا و هناك - للعبث بتاريخية وحتمية وقوة العلاقات بين الأشقاء العرب ، يتعرض الحلم العربي للتراجع كلما اعترضته أزمة عابرة . و هذا أمر ليس بالجديد فقد تعرضت له فكرة القومية العربية مرارا . لكن العقلاء ممن يدركون قيمة الفكرة و سموها يترفعون دائما عن الانزلاق نحو مستنقع الخلافات الذي لن يفيد أحدا سوى أعداء الأمة . فالوعي الوعي و الحذر الحذر من الانسياق خلف الجهلاء ، وعلى الواعين في كل أزمة أن يترفعوا عن الولوج إلى ساحة معركة – كلامية – سيخرج الكل منها مهزوما ، و تتعرض معه فكرة الوحدة العربية - أو قولوا التكامل العربي – لانتكاسة جديدة ، لكنها حتما لن تموت .