رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تزوير الفلوس والنفوس

 

فى عام ١٩٠٤ قامت صحيفتان بمصر هما "الأرنب"، و"حمارة منيتى" بتزوير صورة للإمام محمد عبده، وهو يراقص سيدة بطريقة معيبة، ومن حولهما كلب. 

التزوير، بهدف تلطيخ سمعة الإمام، كان بإيعاز من الخديو عباس حلمى الثانى، الذى لم يكن يطيق الإمام، وفى ٦ فبراير ١٩٠٤ قضت المحكمة بحبس صاحبى الجريدتين.

وبعد أكثر من مائة عام على صورة الإمام المزورة تنتحر الآن "بسنت"، فتاة كفر الزيات، فى السابعة عشرة من عمرها بعد أن قام طالبان من الأزهر بتزوير صورة لها عارية ونشرها على فيسبوك، أقسمت بسنت لأمها فى رسالة: "ماما يا ريت تفهمينى أنا مش البنت دى، ودى صور متركبة والله العظيم وقسمًا بالله"، ثم أنهت حياتها القصيرة.

وما بين حادثة الإمام منذ مائة عام وانتحار بسنت الآن، قامت جريدة الأهرام فى سبتمبر ٢٠١٠ لتعظيم وتفخيم الرئيس مبارك بنشر صورته خلال الجولة الأولى من مباحثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث أظهرت بالفوتوشوب مبارك فى مقدمة الصورة كأنه يقود الجميع، وفى الواقع كان الرئيس الأمريكى أوباما يتقدم الجميع ومبارك فى الخلفية!.

ويتضح من كل ذلك أن التزوير والتزييف موغل فى القدم وفى التاريخ ومتجدد أيضًا، ولقد أخذ التزوير الذى بدأ بالفلوس يمد خطاه نحو تدمير النفوس والتاريخ والوعى والثقافة.

تزييف الفلوس كان أسهل من تزييف الوعى، حتى إن المخابرات الألمانية تمكنت فى الحرب العالمية الثانية من تزييف ما يقارب مائة وثلاثين مليون جنيه إسترلينى لضرب اقتصاد عدوتها بريطانيا وإجبارها على الاستسلام، وسُميت العملية "بيرنهارد" على اسم الضابط الألمانى، صاحب الفكرة المدمرة، وكانت تلك أشهر عملية تزييف فى التاريخ المعاصر.

أما عمليات تزييف النقود المصرية فقد كانت صغيرة، ولم تبدأ إلا بعد أن شرع البنك الأهلى المصرى فى إصدار الأوراق النقدية فى أبريل عام ١٨٩٩، لكن تاريخنا حافل بعمليات تزييف أكبر وأخطر تمس الوعى، خاصة ما يتعلق بتزوير وتشويه أبطال الحركة الوطنية المصرية، خاصة الزعيم أحمد عرابى، وهو ما يقوم به من دون كلل يوسف زيدان حين ينتقص من دور الثائر المصرى العظيم، وأيضًا ما يقومون به حين يضعون ثورة يوليو داخل خانة "العسكر"، كأنها لم تكن ثورة على الملك والاحتلال والإقطاع.

وفى كل ذلك تزوير يمتد إلى عهود قديمة حين أطلق الخديو توفيق على ثورة عرابى كلمة "هوجة" لينفى الثورة عن الشعب، ويتواصل تزييف الوعى حين يطلقون على العالم العربى "الشرق الأوسط" لاستبعاد فكرة أن ثمة ما يوحد شعوب ذلك العالم فى الكفاح ضد الاستعمار.

وسنجد التزوير على أشده فى الثقافة عندما يقوم البعض بإعادة كتابة روايات أجنبية بحذافيرها، لكن بأسماء أماكن وشخصيات عربية! وعندما يزورون قصص الأفلام الأجنبية، ويضعون الألحان لأغنيات سبق لك أن سمعتها هندية وإسبانية، طبلة طبلة، ونغمة نغمة.

وقد أعطى التقدم العلمى لظاهرة التزوير دفعة هائلة للأمام مع ظهور الكمبيوتر ومختلف الأجهزة الحديثة، وبرامج فوتوشوب والماسح الضوئى حتى ليتساءل المرء: هل تدفعنا حركة وتقدم العلوم خطوة إلى الأمام وتجرنا خطوتين إلى الخلف؟ بهذا الصدد جدير بالذكر أن دار الإفتاء أصدرت فتوى أنه لا يجوز شرعًا استخدام تقنية "deebFake" الشهيرة فى تلفيق مقاطع مرئية أو مسموعة للأشخاص.

فى كل الأحوال فإن حيوية التزوير وقدراته المتجددة على تشويه التاريخ والفن والحقيقة تستدعيان إلى النفس الشعور بالغربة الذى عبر عنه الكاتب الألمانى كافكا حين قال: "خجلت من نفسى عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية وأنا حضرتها بوجهى الحقيقى".