رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد الخطاب الدينى مع "شعب متدين بفطرته"

بين كل فترة وجيزة وأخرى أقرأ عن بناء وافتتاح مساجد للصلاة، وأتساءل هل هذا ما فهمته المؤسسسات الدينية الرسمية عما نقصده من تجديد الخطاب الدينى؟.
منذ عام 2014 والمؤسسات الدينية متعثرة فى التعامل مع مقولة "تجديد الخطاب الدينى" تناقضات فى الفهم وفشل فى التطبيق ولف ودوران وفوضى فى التصريحات وكأنها معضلة معقدة تستعصى على الحل.
الحل فى منتهى السهولة والبساطة ولن نخترع الأشياء فى الألفية الثالثة، المعضلة الحقيقية الواقفة فى الطريق هى أن المؤسسات الدينية فى الدولة لا تريد تغيير وتجديد وعصرنة علاقة الشعب المصرى بالإسلام المتوارث منذ 1400 سنة من صحراء الجزيرة العربية.
يريدون لنا الاستمرار محبوسين ومحبوسات بجنازير الحديد فى زنزانة القهر وكراهية الحرية وطاعة الأوصياء على عقولنا وعلى أجسادنا وعلى كل تفاصيل حياتنا منذ أن نصحو حتي ننام منذ الميلاد وحتى القبر.
هذا هو بيت القصيد، وهذا الذى جعل الرئيس السيسى فى مواجهات مختلفة مباشرة مع قيادات الأزهر والمسئولين عن إدارة المؤسسات الدينية الرسمية، لقد دخل بجسارة البحيرات الراكدة، وفى جميع خطبه لابد أن يثير قضية تجديد الخطاب الدينى وجعله أمرًا ضروريًا حيويًا مثل البناء والتعمير والتنمية الإقتصادية والعدالة بين الرجال والنساء وعمل علاقات خارجية متوازنة مع دول العالم لكنهم يخذلون الرئيس ويصرون حتى الرمق الأخير على أن نبقى محشورين مخنوقين فى عنق الزجاجة العتيق لا يناسب تغيرات الحياة وتجدد احتياجات التقدم الحضارى.
منْ تريد الحرية ورفض الوصاية فهى كافرة، غير طبيعية، محرضة على الفسق والفجور، تزدرى الدين والرسل، ومنْ يشتهى الحرية ويرغب فى الانعتاق من المعتقلات الدينية فهو منحل، يتطاول على المقدسات، يهين الذات الإلهية العليا، خطر على الأسرة المسلمة الفاضلة وعلى المجتمع المتدين بفطرته.
يعنى إيه "الشعب المصرى متدين بفطرته"؟ سوف أساير هذا المعنى الذى لا أوافق عليه، وأسأل لو كان الشعب المصرى متدينا بفطرته فلماذا إذن نشأ الإسلام بقرآنه ورسوله وخلافته وأحاديثه ونواهيه وأوامره وناره وجنته ثم جاء إلى مصر بعتاده ومفاهيمه وجيوشه لكى يحولها من دار الأقباط إلى دار المسلمين؟.
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته فلماذا لا يترك لفطرته المتدينة كى تقوده فى الحياة؟
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، فلماذا هناك الأزهر والأوقاف ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء والجمعيات الشرعية والمشايخ الذين يأخذون من ميزانية الدولة المليارات من الجنيهات؟ ماذا يفعلون؟
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته؟ فلماذا حزب النور الذى أخذ رخصة سياسية للعمل الحزبى على أساس أنه "حزب مدنى بمرجعية دينية" يقول إنه يعمل على الدعوة الإسلامية؟ لماذا الدعوة الإسلامية إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته؟ ولماذا يزيد عدد المصريات والمصريين اللادينيين والذين تركوا الإسلام أو تركوا كل الأديان إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته؟
وإذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، لماذا جرائم القتل والذبح والرمى بالرصاص والتشويه بماء النار والتمثيل بالجثث وإلقائها فى الترع ومقالب القمامة مقطعة الرأس والأطرف والأعناق، بسبب مفاهيم مجرمة همجية اسمها "شرف الذكور"، "الأخذ بالثأر"، "خيانة الزوجة"، "سمعة العائلة"، "عرض الزوج"، "اختفاء عذرية الفتاة"، "عدم طاعة المرأة أو الزوجة للأب أو الزوج أو الأخ أو الابن أو العم أو الخال؟ وما هى العلاقة بين التدين بالفطرة والرغبة فى تغطية النساء واعتبارهن فضيحة وعارًا وعورة وخبثًا فاسدًا بالسليقة، شيطانيًا نجسًا يمشى فوق الأرض؟
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، لماذا يعد التحرش الجنسى بالألفاظ والأفعال فى مصر من أعلى النسب على مستوى العالم؟
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، فلماذا العلاقات السرية تحت بئر السلم والخيانات الزوجية والازدواجيات غير الأخلاقية؟ لماذا يفبرك الشباب المسلم صورًا إباحية للفتيات والنساء لكى يقومون بابتزازهن من أجل علاقات خبيثة، تقنن الانفلات الشهوانى للذكور وتبرر تحرشاتهم وكبتهم وأمراضهم الذكورية القاهرة للنساء وتغفر كل انحرافاتهم الجنسية والأخلاقية قبل الزواج وبعد الزواج؟
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، فلماذا "بيزنس" التجارة بالدين من الفقهاء والمشايخ وأهل الفتاوى؟ ولماذا ينخر الفساد والرشوة والواسطة والمحسوبية والكذب وسوء استغلال السلطة والنفوذ فى جسد المجتمع؟ لماذا أخطاء طبية تؤدى إلى الوفاة أو إلى عاهات مستديمة؟.
إذا كان الشعب المصرى متدينا بفطرته، لماذا يرضى بالفوارق الطبقية البشعة التى تجعل ناسا يعيشون كالملوك والأمراء وناسا يعيشو بجانب مكبات النفايات؟
إن حل المشكلات يبدأ دائمًا بالتشخيص السليم وإلا جاء العلاج بلا فائدة وبلا معنى وفى أغلب الأحيان تسوء المشكلة أكثر ونكون قد تكلفنا المال وبذلنا الجهد وضيعنا الوقت عبثًا وهدرًا.
إذن تؤكد التصريحات التى نقرأها بلا توقف عن ترميم وبناء وافتتاح المساجد والجوامع، أن المؤسسات الدينية الرسمية فى البلد قد شخصت مشكلة المسلمات والمسلمين هى "نقص فى عدد المساجد والجوامع" وأن تجديد الخطاب الدينى لا يعدو أن يكون إلا تجديدًا للمساجد والجوامع وأن نقص التدين الحقيقى هو نقص فى الصلاة وأن زيادة عدد المساجد هو الذى يجعل شعوب العالم الأخرى تطمئن وتبعد خوفها المتأصل من الإرهاب الإسلامى على أرضها.
إن حال المسلمات والمسلمين فى مصر يؤكد بألف مليون دليل وظاهرة أن مشكلاتهم لا علاقة لها بعدد دور العبادة، وتأمل حال الشابات والشباب المسلم الذى يكتئب أو ينتحر أو يعتكف أو يطفش ويهاجر إلى بلاد "غير إسلامية" ليس سببه أنهم حينما يريدون الصلاة لا يجدون مساجد تكفيهم، وعندما تصفعنا الإحصاءات والأرقام أن البلاد الاسلامية فى ذيل دول العالم من كل النواحى فى نوعية الحياة وصحية البيئة ومستوى الجامعات والمستشفيات والمدارس والخدمات العامة ومكانة النساء وسعادة الطفولة والبحوث العلمية وحريات التعبير والنقد وعمق الإعلام وحرية الدين والعقيدة ورقى الإبداع وعدالة قوانين الأحوال الشخصية وانحسار الإرهاب وغيرها من ضرورات التقدم الإنسانى ومؤشرات التحضر الفكرى والتمدن حتى فى حدودها الدنيا.
عندما تنبغ امرأة مصرية مسلمة فى الخارج بعد أن تركت عالمها المسلم وتتفوق حتى على نساء البلد المهاجر إليه فى أى مجال أيكون هذا بسبب أنها لم تجد فى وطنها أماكن كافية لصلاة النساء؟ وعندما يشيد العالم كله بإنجازات رجل مصرى فى الطب أو العلم ترك مصر واستوطن بلدًا يصفونه بإحدى بلاد الغرب "الكافر"، أيكون بسبب غضبه لأنه كلما حان وقت الصلاة لا يجد له مكانًا؟
نسيت أن أوضح شيئًا مرتبطًا بهذا الموضوع أننى كنت أكتب هذا المقال وقت صلاة العصر، والمسجد المجاور لبيتى ماسك الميكرفون بصوته المرتفع جدًا لمدة نصف ساعة، ويوميًا يحدث هذا مع كل أذان، ماذا نصف هذه السلوكيات؟ حتى منع الميكرفونات فى المساجد والجوامع فشلنا فيه!.
الملفت للنظر أن السعودية التى صدرت لنا الوهابية المتشددة المتزمتة الصحراوية فجة الذكورية والسلفية لمدة نصف قرن من الزمان قد تعهدت بقيادة ولى العهد الجديد محمد بن سلمان بتحقيق رؤية 2030، تطوير وتقدم وتغيير فى المملكة من جميع النواحى تحت شعار "أمة طموحة.. مجتمع طموح".
وفعلًا توالت التغيرات التى تنقل السعودية من أزمنة الوهابية السلفية المتشددة فى تزمتها وذكوريتها وتشبثها بفقه إسلامى لا يستجيب لتغيرات العصر والألفية الثالثة، بعد أن قامت بتصدير هذا الفكر إلى مصر ومولت أوجه الحياة المصرية لكى تروج وتفرض الثقافة الوهابية السلفية ذات الذكورية الفجة وقامت بتدعيم الإخوان المسلمين وجنود الدولة الدينية لكى تتحول مصر وهذا ما حدث بكل أسف على مدى نصف القرن الماضى إلى إسلام صحراوى جامد يضطهد النساء والفن والموسيقى والغناء.
محمد بن سلمان أخذ على عاتقه وتعهد أمام العالم بنقل السعودية إلى مسار النهضة والتقدم ومجاراة العصر وتعويض الوقت، لفظ الوهابية ومنع تدريس كتب الفقهاء والآئمة والمشايخ المحاطين بقدسية فى مصر وأكد على القيم العليا النبيلة التى تتوخى العدالة وعدم التمييز وأقام حفلات الغناء والموسيقى الفاخرة وأوقف هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عن ملاحقة الناس أوقات الصلاة ومطاردة غير المحجبات وكم بهرنا المهرجان السينمائى الدولى فى السعودية وهو مهرجان البحر الأحمر فى جدة من 6 - 15 ديسمبر 2021.
وأحدثت السعودية بعد لفظ الوهابية ثورة غير مسبوقة فى تاريخ الفقه الإسلامى، وهو الأخذ فقط بالحديث المتواتر وأى حديث آخر (الآحاد والخبر) لابد أن يكون متفقًا مع نص قرآنى وأيضًا يكون ملائمًا لمتغيرات العصر والقانون العادل، المرأة السعودية الآن فى حال مزدهر وأعتقد أنها ستقود المزيد من النهضة والتقدم فى السعودية فى جميع المجالات خاصة فى الفن.
قال محمد بن سلمان، الشاب الطموح المتفتح المتقدم المثقف، إن السعودية لا تتبع أى مدرسة إسلامية ولا أحد من السلف أو مدارس التراث "مقدس" والاجتهاد المتفتح المستنير متواصل ليقضى على فوضى الفتاوى وعدم عصريتها وتناقضاتها، فى الحقيقة وبالطبع يحاربه ناس من الداخل والخارج.
وفى مصر هناك منْ يعتبره قد أساء إلى الأراضى المقدسة بما أحدثه من تغيرات وإقامة مهرجان دولى للسينما، كل هذا متوقع وطبيعى خاصة فى السعودية، لكن ولى العهد يستند إلى قوة شعبية من الشباب رجال ونساء الذين يؤمنون بالتقدم ويشتهون الحرية ويعشقون الفن ويحلمون بالعدالة والإزدهار والتوقف عن جعل الدين سلعة للتجارة والمزايدات والوصايا وأداة مقننة لترسيخ التأخر والتخلف والإنغلاق.
وإذا تغيرت السعودية فالأمل كبير لضرب التأسلم والتشدد والضحك على الذقون وتكفين النساء وهن أحياء حتى فى مصر التى كانت شعلة التغيير الحضارى فى المنطقة، حيث الشعب المصرى متدين بفطرته.
هذا الشعب المتدين بفطرته، استسلم فى عقله ووجدانه ومزاجه للهوى الإخوانى السلفى المتعصب اللاعقلانى متضخم الذكورية، والآن هاجم فى قطاعات لا بأس بها التغيرات فى السعودية ورؤية محمد بن سلمان، يعنى أنه "سعودى" أكثر من السعوديين أنفسهم، أو "ملكى أكثر من الملك نفسه".
لقد سببت التغيرات الجذرية فى السعودية ضربة كبيرة للتأسلم التجارى والانغلاق الحضارى وتسببت فى الكثير من الحرج للمؤسسات الدينية فى مصر التى لم تكن تدين بالوهابية السعودية السلفية وتدعى الإسلام الوسطى مع شعب متدين بفطرته ولكنها عجزت عن انجاز ربع ما تحققه السعودية الآن.
لقد أخذ الرئيس السيسى خطوة غير مسبوقة، وقال "كلنا ورثنا دياناتنا وعقائدنا.. كل واحد حر لازم يكون عندنا حرية الاعتقاد وحرية اللاعتقاد".
كلام يكفى لأن نعبر الأزمة ونستعيد ريادتنا الفكرية والثقافية، ولكن المؤسسات الدينية لا تريد.