رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«وديعة لينين».. قصة مثيرة لقناع من التاريخ المسيحى

فى عمله الأدبى الأحدث "وديعة لينين" الصادرة فى ٢٠٢١ عن منشورات الربيع، عمد الروائى والسيناريست الشاب مارك أمجد "١٩٩٤"، إلى خلق رواية تتكئ على الكثير من الأحداث الراهنة المعروفة، وتتخذها خلفية للقصة المطروحة فى الرواية، إلا أنه اختار أن يموّه تلك الأحداث بأن ألبسها ثوبًا مسيحيًا، وجعل شخصيات روايته وأحداثها، تظهر كشخصيات وأحداث ورموز مسيحية، ولكن فى زى عصرى، وفى زمان قريب للغاية، وبالتحديد العقد الأخير من الزمان.

وعلى الرغم من أن هذه المناورة كانت مجازفة، قامر بها أمجد، إذ ربما تثير غضب البعض فى الأوساط القبطية، إلا أن الكاتب الشاب وُفِق كثيرًا فى إلباس شخصيات روايته ذلك البعد المستورد من التاريخ والتراث المسيحى، فرأينا شخصيات مثل اللصين "ديماس" و"جستاس"، وبدوا فى صورتيهما العصرية متناغمين كثيرًا مع الأصل المرجعى لهما، كما ظهرت «راحاب»، ومعلم الناموس "غمالائيل"، وغيرهما من الشخصيات التى يرد ذكرها فى العهدين القديم والجديد.

تدور أحداث الرواية حول محاولة شاب قبطى، انتشال فتاة مسيحية بروتستانتية "راحاب" تدرس فى كلية الإعلام، من علاقتها مع شاب مسلم أسماه المؤلف "ديماس"، وكذلك إبعادها عن الشاب المسلم الآخر "جستاس"، حيث إن الاثنين، هما صديقان للبطل "الراوى" لأحداث الرواية بالضمير الأول "ضمير الأنا". وسبب محاولة ذلك الشاب استعادة راحاب من هوى ديماس وجستاس، هو رؤيا هذيانية، وقعت له، فى منزله، حيث يتجسد له الإله ويكلفه بتلك المهمة، كما يرد فى مفتتح الرواية: "انتخبتنى القوات السماوية، وكلفتنى كى أصير جنديًا استطلاعيًا على راحاب، فى مهمة حربية تحت مسمى (عاموس ١٧) لأسترجعها من حضن صديقى المسلم".

ومن خلال تلك القصة الشيقة، يطرح مارك أمجد رؤيته للعالم، وللأحداث القريبة والراهنة، وعبر العملية التنكرية الذكية والأقنعة المسيحية التى ألبسها شخوصه، يمرر الكاتب نقده للكثير من الأمور الراسخة والمستقرة فى الوجدان المصرى، على أصعدة سياسية وأيديولوجية ومجتمعية وحتى دينية. الأمر الذى اقتضى أن تخرج الرواية، بلغة غاضبة، خشنة، رغم نزوعها للقديم، وضرورة اقترابها من القاموس المسيحى. وبالمثل اقتضت الضرورة الفنية، أن تشهد الرواية الكثير من الملامح الإيروتيكية، لا على سبيل الطرح المجانى، ولا كطعم لقارئ شاب متعطش لمثل تلك الأمور، وإنما لأن طبيعة الحدث المطروح، وكذلك مرجعيته التاريخية، تفرضان ذلك الجنوح نحو الإيروتيكا، والألفاظ ذات المحمول الجنسى.

ومن ضمن الأمور التى سخر منها الراوى، والتى تشكّل وجهة نظره وزاوية رؤيته للعالم، مثلًا، طبيعة العلاقات فى الأوساط الثقافية، لا سيما بين شباب المثقفين، ومركزهم الجغرافى فى وسط البلد، وبالمثل فقد مرر الكاتب نقدًا مريرًا لعالم الصحافة، بحيث يبدو ذلك العالم كما قدمه مارك أمجد، مرتعًا للمخبرين والمأجورين ومفبركى الأخبار، ويبدو أن آخر همه هو نقل الحقائق. وامتد النقد والنقمة ليطال الموجة النسوية، التى تطالب بحقوق الإناث، وتسعى لتفكيك الإرث الذكورى المهيمن منذ قرون، إذ يرد فى الرواية: «لجان التحكيم تعبئ قوائمها من قبل الاطلاع على الأعمال المشاركة. والمخرجون الذين يُستَدعون للمهرجانات يُشترط نضالهم وليس مهارتهم، وتُرشح أسماؤهم وفقًا للمتغيرات الدولية وقد أطلق على تلك المعايير (توليفة المهرجانات) وهى مزيج من النسوية والمثلية، (الرجولية على الأغلب) والحروب الداعشية. بكلمات أخرى شرحوا له أنه (...) حتى لو صنع فيلمًا عبقريًا، لن تلتفت له أى لجنة تحكيم طالما لم يحكِ قصة (...) روائى وصل بفضل كتابات زوجته وعملها بالساعات على مخطوطاته لجائزة نوبل". صـ ٨١، ٨٢.

وإلى جانب هذا النقد الحاد لبعض جوانب "الصوابية السياسية"، فقد مرر الكاتب نقدًا أكثر حدة للكثير من الطوائف المسيحية، مستغلًا ديانة البطل، وطبيعة المهمة الخيالية المكلف بها، وكذلك ديانة الفتاة المكلف باسترجاعها، وطبيعة عمل والدها كقس بروتستانتى.

وخلق المؤلف على امتداد روايته، رافدًا معرفيًا سينمائيًا، يبدو نخبويًا ورفيع المستوى، إذ إن هناك الكثير من الإحالات للسينما، المصرية والعربية والأوروبية والأمريكية وحتى الآسيوية، فطبيعة العلاقة بين البطل وصديقيه ديماس وجستاس، كانت تقوم إلى جانب الصداقة، على شغف هذا الثلاثى بالسينما، حتى إن الكثير من لقاءاتهم كانت تحدث فى قاعات العرض. الأمر الذى سمح بضخ هذا التيار المعرفى السينمائى فى عروق النص.

وكانت تلك الصداقة بين الثلاثى، تأخذ شكلًا منبطحًا من البطل أمام صديقيه، وبالتحديد أمام فحولة أحدهما وسطوة الآخر. إلا أن "وديعة لينين"، تنتهى بما يشبه انعتاق البطل من دونيته أمام ديماس وجستاس، ويحدث له ما يشبه التجاوز والتحرر أمام سطوة صديقيه اللذين انتزعا راحاب.

ختامًا، تجدر الإشارة، إلى أن رواية "وديعة لينين"، هى العمل الأدبى الرابع لمارك أمجد بعد روايتيه "الرقص على أرغن الرب"، و"البطريركية"، ومجموعته القصصية "نشيد الجنرال"، الفائزة بجائزة ساويرس للقصة القصيرة ٢٠١٧.