رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمة تهتف بحياة الزعيم الوطنى «القريب من الله»

نسبة محدودة من المصريين وقعت أسيرة للفكر الدينى الذى أفرزه العقل السكونى لحسن البنا، وهو العقل الذى تصلب على فكرة «الخلافة» وضرورة استعادتها، واستدعاء صور الماضى وفرضها على الحاضر، أما النسبة الغالبة فقد هضمت الأفكار الجديدة التى أفرزتها كتلة المتعلمين، وأسست لعصر جديد يعتمد على قيم العلم والعقلانية، وفصل الدين عن السياسة، لكنها بحال لم تجرؤ على فصله عن الحياة الاجتماعية والثقافية للمصريين، والتى يعتبر الدين ركنًا ركينًا فيها.

لم تكن الكتلة المدنية منكرة للإسلام ورسالته الإنسانية العظيمة حين تمسكت بأهداب الدولة الوطنية، وكل ما أرادته هو النأى به عن أسواق السياسة، تنزيهًا له عما يسيطر على هذه السوق من ممارسات لا تتسق وقدسية الدين، والإصرار على التأكيد على معادلة الإسلام الوسطى السمح المدافع عن الحياة والأخلاقيات.. ويمثل مصطفى باشا النحاس نموذجًا وترجمة عملية للزعيم الذى التفت حوله قطاعات كبيرة من الجماهير المصرية التى آمنت بالدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة، لكنها فى الوقت نفسه جعلته جزءًا من حياتها وأبنيتها الأخلاقية، فامتازت بقدر من الاستقامة لم يتوافر لغيرها.

بدأ «النحاس باشا» رحلته فى الحياة من «سمنود» حيث ولد فى ١٥ يونيو عام ١٨٧٩، ونشأ طفلًا فى بيت صوفى، وعندما انتقل إلى القاهرة للدراسة صحبه أبوه إلى مسجد الحسين ووقف أمام ضريح حفيد النبى، صلى الله عليه وسلم، وقال: «لقد سلمت لك مصطفى!»، ويشير البعض إلى أن هذه الواقعة جعلت «النحاس باشا» شديد الحرص على أداء شعائر الدين، وقد حصل على البكالوريا من المدرسة الخديوية، والتحق بكلية الحقوق «كلية الوزراء حينذاك».

مثلت كلية الحقوق فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى المفرخة الأولى للرموز الفكرية والسياسية التى دافعت عن الدولة الوطنية، فى حين كانت كلية دار العلوم البيت الكبير لتربية الكوادر الفكرية المحافظة المتمسكة بمفاهيم الخلافة والجامعة الإسلامية.. الفارق بين «الحقوق» و«دار العلوم» هو ببساطة الفارق بين مصطفى باشا النحاس زعيم الوفد، وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وهو أيضًا الفارق بين المؤيدين فى ذلك الوقت لفكرة الدولة الوطنية المستقلة التى تحتكم إلى دستور يقره الشعب وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها، والمؤيدين لفكرة دولة الخلافة والمنادين بشعار «القرآن دستورنا»، والذين لا يجدون مانعًا فى الديكتاتورية أو القفز على الدستور، فى سبيل التمكين لهم ولأفكارهم.

تستطيع أن تستدل على ذلك بحالة الخصومة التى وقع فيها العديد من القوى السياسية مع حكومة «محمود فهمى النقراشى باشا» بسبب ديكتاتوريته وولائه الخفى للمستعمر الإنجليزى.. الفريق الوحيد الذى امتاز بصداقة وطيدة معه هو أعضاء الإخوان، فقد أيدوه ودافعوا عنه وباركوا خطواته، يشهد على ذلك أنه حينما أبرق النحاس باشا إلى الأمم المتحدة أن «النقراشى» لا يمثل مصر بل يمثل نفسه وهو يتحدث عن أمر استقلالها، بادر الإخوان إلى الهجوم على «النحاس» وأبرق حسن البنا إلى الهيئة الدولية مؤكدًا أن ما يقوله «النقراشى» هو رأى مصر وقول مصر.. كان «البنا» سعيدًا بالنقراشى حين أفسح لجماعته الطريق للتدريب العلنى على حمل السلاح وحيازة الذخيرة تمهيدًا للمشاركة فى تأديب العصابات الصهيونية عام ١٩٤٨، فى وقت لم تكن تلقى القوات المصرية الزاحفة إلى فلسطين الدعم المطلوب للقيام بدورها. 

عاش النحاس باشا مؤمنًا بالدولة الوطنية وضرورة فصل الدين عن السياسة، وكان فى نظر قطاعات كبيرة من الشعب، سياسيًا قديرًا، وفى الوقت نفسه مؤمنًا حقيقيًا، يتحرك بأفكار الإسلام الوسطى، الذى يعرف الالتزام، لكنه يبرأ من التعصب، ويمتاز بنفس صوفى محبب لدى المصريين الذين كانوا يفسرون نجاة زعيم الأمة الرئيس الجليل من محاولات الاغتيال التى تعرض لها بحفظ الله له، لأنه شديد القرب من خالقه، أو كما كنا نسمع عنه من الآباء: «رجل قريب من الله».

توفى النحاس باشا فى ٢٣ أغسطس ١٩٦٥، يومها فوجئ مستمعو إذاعة الإسكندرية المحلية بخبر ينعى لهم الزعيم الكبير مصطفى باشا النحاس، وكان بالإسكندرية حينذاك.. بدأت مشاعر عديدة تعتمل داخل نفوس المصريين عند سماع الخبر.. يحكى نجيب محفوظ رد فعل أحد الوفديين القدامى من أبطال روايته البديعة «باقى من الزمن ساعة» وهو يصف «النحاس» قائلًا: «مات آخر الزعماء.. سيشيع غدًا فى جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة»، رد الفعل يبدو طبيعيًا إذا أخذنا فى الاعتبار أن «ناصر» اتخذ قرارًا بحل جميع الأحزاب، وهمّش زعماءها، ومن بينهم النحاس باشا، لكن أحداث «الجنازة» سارت على عكس ما توقع الوفديون.

عندما وصل جثمان النحاس باشا إلى ميدان التحرير بالقاهرة انشقت الأرض عن مئات الألوف من البشر الذين أحاطوا بنعشه وأخذوا يهتفون بحياة الزعيم الخالد، والوطنى الكبير، ورافع لواء الديمقراطية، أخذت الجموع تهتف: «اشكِ لسعد الظلم يا نحاس» و«لا زعيم بعدك يا نحاس».. كان المشهد مفاجئًا، وصفه نجيب محفوظ فى روايته بقوله: «كانت الجنازة انفجارًا بركانيًا غير مسبوق بإنذار.. كيف حصلت هذه الأسطورة؟!.. أى طوفان من جموع بلا نهاية، أى هتافات تتطاير بشواظ القلوب، أى دموع تترقرق فى الأعين، أى حزن يغشى الشيوخ والشباب، أجل والشباب أيضًا؟!». ربما يكون نجيب محفوظ قد بالغ بعض الشىء وهو يصف مشهد الجنازة بسبب ميوله الوفدية، لكن حقائق الواقع والتاريخ تقول إن الجنازة كانت استثنائية ورسمت مشهدًا غير متوقع فى ذلك الزمان، وعبّرت عن حنين طاغٍ للزعيم المتزن الذى يجيد الحسابات السياسية ولا يندفع فى مغامرات غير محسوبة، ويقدم نموذجًا للمتدين الوسطى الذى يحبه الشعب.

كان من الطبيعى أن يستثير المشهد زعيم الوقت «جمال عبدالناصر» وأن يستفز رجال الثورة، فكيف خرجت هذه الآلاف من البشر لتودع زعيمًا ينتمى إلى العصر البائد، فى وقت لا تتلكأ فيه هذه الآلاف نفسها عن الهتاف للثورة وزعيمها؟.. كان السؤال المطروح على لسان الجميع: «هو الوفد لسه عايش؟!».. العجيب أنه بعد هذا الحدث بخمس سنوات توفى الزعيم جمال عبدالناصر فشيعه المصريون فى جنازة مشهودة، وتدفقت الجموع من كل حدب وصوب تبكى الزعيم «حبيب الملايين»، كان أغلب المشاركين فى الجنازة من بسطاء هذا الشعب، من العمال والفلاحين الذين صنع لهم جمال عبدالناصر الكثير عبر ما أخذه من جيوب وثروات الأغنياء، أغلب هؤلاء كانوا راضين بمعادلة الحكم الناصرى التى لا تتأخر عن إطعام الفم من أجل أن تستحى عين السياسة، لم يكن يهم هؤلاء ما تحدث عنه المشاركون فى جنازة «النحاس» حول الحرية والديمقراطية والظلم والاستبداد السياسى وغير ذلك، بل كان يهمهم رغيف الخبز.