رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف أصبح التيجراى الشعلة التى تهدد إثيوبيا بالاحتراق؟

بداية.. دعونا نعود إلى قول بعض المحللين، إن رحلة رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، من صانع للسلام إلى قائد في ساحة المعركة، هي قصة تشير إلى أن الغرب اليائس في محاولة العثور على قائد جديد في القرن الإفريقي، قد أخطأ في ظنه، وأخطأ هذا القائد بشكل مذهل.. وكما يقول أليكس روندوس، كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي، إن (الغرب بحاجة إلى تعويض أخطائه في إثيوبيا).. (لقد أساء الحكم على آبي.. لقد مكن أسياس أفورقي، والمسألة الآن هي: ما إذا كان يمكن منع بلد، قوامه مائة وعشرة ملايين نسمة من الانهيار).. إن الغرب الذى ما زال منبهرًا بجائزة نوبل التى قدمها لآبي أحمد، تجاهل كل الإشارات التحذيرية من هذا الشخص، الذي قام، في نهاية المطاف، على تمهيد الطريق للحرب، لأنه، وكما قال جبرميسكل كاسا، المسئول الكبير السابق في حكومة آبي، والمنفى حاليًا في أوروبا، (منذ ذلك اليوم، شعر آبي أنه أحد أكثر الشخصيات نفوذًا في العالم.. لقد شعر أنه يحظى بدعم دولي كبير، وأنه إذا خاض حربًا في تيجراي، فلن يحصل شيء.. وكان على حق).
كتاب التاريخ يدلنا على أن أسياس أفورقي كان يكن ضغينة طويلة ومريرة ضد جبهة تحرير شعب تيجراي، التي هيمنت على إثيوبيا لما يقرب من ثلاثة عقود، إلى أن وصل آبي أحمد إلى السلطة عام 2018.. وألقى باللوم على قادة التيجراي فى الحرب الحدودية الضارية، التى وقعت خلال الفترة من 1998 إلى 2000، بين إثيوبيا وإريتريا، المقاطعة الإثيوبية السابقة، والتى لقى خلالها ما يصل الى مائة ألف شخص مصرعهم.. كما ألقى باللوم عليهم في عزل إريتريا الدولي المؤلم، بما في ذلك الجزاءات التي فرضتها الأمم المتحدة.
بالنسبة للسيد آبي، كان الأمر أكثر تعقيدًا.. لقد خدم في الائتلاف الحاكم، الذي يهيمن عليه الاتحاد لمدة ثماني سنوات، وشغل منصب وزير عام 2015.. ولكن بصفته أورومي العرقية، أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا، لم يشعر أبدًا بقبول تام من التيجراي، وعانى من العديد من الإذلال، على حد قول مسئولين وأصدقاء سابقين.. إلى أن قام التيجراي بطرده من منصبه القيادي، في وكالة الاستخبارات عام 2010.. وعندما جاء إلى السلطة، كان متشوقًا لرؤية التيجراي، الذين ما زالوا يتذكرون كيف أطاحوا به، والذين كانوا أكبر تهديد لطموحاته السياسية.
التقى آبي وأسياس أربع عشرة مرة على الأقل، منذ توقيعهما على اتفاق السلام، وحتى اندلاع حربه على التيجراي.. وقال مسئولان إثيوبيان سابقان، إنه على غير العادة، كانت الاجتماعات فى معظمها وجها لواحد، دون مساعدين أو مراقبين.. كما التقيا سرًا في ثلاث مناسبات أخرى على الأقل بين عامي 2019 و2020، وكان أسياس يصل إلى أديس أبابا دون سابق إنذار، على حد قول مسئول سابق.. وصدرت تعليمات إلى سلطات الطيران بالصمت، وكانت هناك سيارة، لا تحمل علامات، لتقله إلى مقر آبي أحمد.. وفي ذلك الوقت تقريبًاً كان المسئولون الإريتريون يزورون أيضًا منطقة أمهرة بانتظام، التي لها تاريخ طويل من التنافس مع التيجراي.. واحتشدت الحشود في الشوارع عندما زار أسياس مدينة أمهرة القديمة في جوندار، في نوفمبر 2018، مرددين: (أسياس، أسياس، أسياس!).
وفي وقت لاحق، زارت فرقة من المغنين والراقصين الإريتريين أمهرة.. إلا أن الوفد ضم رئيس الاستخبارات الإريترية، إبراها كاسا، الذي استغل الزيارة للقاء قادة قوات أمهرة.. ووافقت إريتريا فيما بعد على تدريب ستين ألف جندي من القوات الخاصة في أمهرة، وهي وحدة شبه عسكرية انتشرت فيما بعد في تيجراي.
صحيح أن فوز آبي أحمد بجائزة نوبل، عن اتفاق السلام غير المحتمل، الذي أبرمه مع أسياس أفورقي، زعيم إريتريا، في غضون أشهر من وصوله إلى السلطة، وأنهى ذلك الاتفاق عقدين من العداء والحرب بين الخصمين المجاورين، إلى أنه، وبدلًا من ذلك، شجعت نوبل آبي وأسياس على التخطيط سرًا للحرب ضد خصومهما المشتركين في تيجراي.. وفي الأشهر التي سبقت اندلاع القتال في إقليم تيجراي، نوفمبر 2020، نقل آبي قواته نحو تيجراي، وأرسل طائرات شحن عسكرية إلى إريتريا.. وخلف أبواب مغلقة، ناقش مستشاروه وجنرالاته العسكريون آفاق الصراع الذي يوشك أن يتفجر.. وكان القتل بإطلاق النار، جزاء الذين لم يوافقوا على ذلك، بينما تم استجواب البعض تحت تهديد السلاح، أو أجبروا على مغادرة البلاد.. في الواقع، كانت حربًا مفضلة لآبي أحمد.. حرب ذات عجلات، بدأت حتى قبل جائزة نوبل للسلام في عام 2019.
ومع ذلك.. يصر آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، الذي شوهد مؤخرًا وهو يرتدي ملابس قيادة القوات على جبهة القتال، على أن الحرب فرضت عليه، وأن مقاتلي التيجراي أطلقوا الطلقات الأولى في نوفمبر 2020، عندما هاجموا قاعدة عسكرية اتحادية في تيجراي، وذبحوا الجنود في أسرّتهم.. وقد أصبحت هذه الرواية عقيدة آبي أحمد ومؤيديه.. وفي كلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، فبراير 2019، دعا آبي إلى الاندماج الفعال بين إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، وهو اقتراح أثار استياء المسئولين الإثيوبيين، الذين اعتبروه بعضًا من حيل أسياس أفورقي، ورأى مساعدو آبي أحمد أيضًا، في هذه التصريحات، دليلًا إضافيًا على ميول آبي المتهورة.
في 4 نوفمبر 2020، بدأ آبي أحمد حملة عسكرية في منطقة تيجراي، على أمل القضاء على جبهة تحرير شعب التيجراي، عدوه السياسي الأكثر إزعاجًا.. لكن التيجراي قلبوا مجرى الأمور.. وعلى الرغم من وعد آبي بحملة سريعة، مُني الجيش الإثيوبي بهزيمة كبيرة في يونيو.. إن النصر العسكري السريع والسهل، الذي وعد به آبي لم يتحقق بعد، وقام التيجراي بدحر القوات الإثيوبية وحلفائها الإريتريين خلال الصيف، حتى اقتربت من العاصمة أديس أبابا مسافة 160 ميلًا، مما دفع السيد آبي إلى إعلان حالة الطوارئ، ودعا المواطنين إلى تسليح أنفسهم.
خلاصة القول، كما يقول ديكلان والش، في مقاله لصحيفة نيويورك تايمز، إن آبي أحمد اعتبر التيجراي تهديدًا لسلطته ـ وربما حتى حياته ـ منذ أيامه الأولى في السلطة.. وقال أحد معارفه، إن التيجراي فضلوا مرشحًا آخر لمنصب رئيس الوزراء، وقال آبي لأصدقائه، إنه يخشى أن يحاول مسئولو قوات التيجراي اغتياله.. وفى مقر رئيس الوزراء، صدرت أوامر للجنود بالوقوف حراسًا فى كل طابق.. وقال مسئول إثيوبي سابق، إن السيد آبي طهر حراسه من عرقية التيجراي، وأنشأ الحرس الجمهوري، وهو وحدة اختارها بنفسه، وتحت سيطرته المباشرة، وقد أدى مقتل القائد العسكري الإثيوبي، الجنرال سير ميكونن، وهو من أصل تيجراوي، برصاص حارس شخصي في يونيو 2019، إلى زيادة التوترات.. كما كان الصدع مع التيجراي مدفوعًا باختلافات سياسية عميقة.. وفي غضون أسابيع من صدور قرار جائزة نوبل، أنشأ آبي حزب الازدهار، الذي جسد رؤيته لحكومة إثيوبية مركزية.. تلك الرؤية كانت لعنة على ملايين الإثيوبيين، الذين يتوقون إلى مزيد من الحكم الذاتي الإقليمي، ولا سيما التيجراي وأعضاء جماعته العرقية، الأورومو.
وما زالت الحرب الأهلية المدمرة في إثيوبيا جارية.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.