رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل بات التنمر كالماء والهواء؟

 

تضج الساحة الحوارية فى مواقع التواصل الاجتماعى بأحاديث نهش السير، سواء للشخصيات العامة من المشاهير، أو فى حق بعض الشخصيات العادية ممن يضعه الحظ العاثر فريسة للتلاسن من قِبل العامة فى سياق الحديث عن تورطه فى حادث أو تعقيب على استخدام أحد حقوقه الطبيعية فى الحياة، مثل زواج الممثل الشهير وهو فى السبعين من العمر وتلقيه قدرًا هائلًا من النقد، لأنه لم يستأذن جمهوره ومعجبيه قبل فعلته المشينة، أو لأنه خرج عن العرف المجتمعى الذى يفترض أن الشخص السبعينى محله غرفة العلاج الطبيعى أو التداوى من قرح الفراش.

قبل الإسهاب فى مناقشة الأمر، دعونا نتعرف على معنى التنمر من الناحية السلوكية والأخلاقية، لأن تعريف أى انحراف بشكل دقيق يسهل فهم العقوبات المرتبطة بتقويم هذا العوار ويبرر سبب الإدانة، والتنمر كما جاء فى بحث للنرويجى «دان أولويس» بأنه أى نوع من الإيذاء اللفظى أو البدنى أو المعنوى يؤتيه شخص ضد شخص آخر أو كيان أو مؤسسة أو شخصية اعتبارية، وهو التعريف الذى اعتمدته منظمات الأمم المتحدة الحقوقية، وبالرغم من تحديد ماهية التنمر فإن بعض الدول، ومنها بريطانيا لم تفلح فى سن قوانين تعاقب على فعل التنمر؛ نظرًا للضبابية الفائقة فى تعريف التنمر الذى يبدأ بالمضايقة وقد ينتهى بالإيذاء البدنى. 

تعمقت الدراسات فى بحث الدافعية للتنمر وأمكن حصر السببية فى أمرين، أولهما امتلاك المتنمر أدوات التسلط، مثل القوة البدنية أو النفوذ، ما يجعله فى حالة ترقب لأى فرصة يفرض فيها سطوته على الفريسة، وليس بالضرورة بغرض جمع منافع، وإنما فقط إشباع غريزة الهيمنة، والأمر الآخر ضمن الدافعية للتنمر هو أن يكون الشخص الفريسة ينتمى إلى أقلية أو أنه يتسم بالوهن البدنى أو المجتمعى.

تجدر الإشارة إلى أن لفظ التحرش يشبه إلى حد كبير سوءة التنمر، ولكن التحرش وهو غالبًا أمر بدنى يحوم حول دائرة الجنس، وهو محاولة لإشباع الغريزة الجنسية، إلا أن التنمر كما أسلفنا قد يخلو من الفائدة، وقد لا يسد أى نوع من العوز لدى المتنمر.

هناك مواصفات بيئية تناسب شيوع التنمر، أولها ضعف القوانين الحامية للحريات وكذلك الثقافة المجتمعية السائدة فى فهم الفرق بين الحرية والخصوصية، لأن التنمر قد يكون محميًا ومؤيدًا بغطاء قانونى، مثل الفهم المغلوط لبعض النصوص الدينية، ومن بينها القوامة والأهلية وتبعية المرأة للرجل، وهى أمور تشعب فيها الجدل حتى غمّ على بعض الأفهام تدارك الحقيقة، وكما أسلفنا، يعتمد فعل التنمر على معادلة الفرق بين عنصرى القوة لدى المتنمر والفريسة، والقوة هنا قد تكون بدنية أو قوة النفوذ وحيازة السلطة وقد تكمن السببية فى محاولة ابتزاز المتنمر للطرف الأضعف فى أمر حقوقى مثلًا.

وهناك أشكال عدة للتنمر، منها التنمر اللفظى، وهو الأكثر شيوعًا فى البيئة التى تتمتع بقدر معقول من الردع، وهناك التنمر الجسدى، وهو شائع فى الابتزاز الجنسى بين الرجل والمرأة، وهناك أيضًا التنمر العاطفى، ويقصد به مساومة الضحية عاطفيًا عبر تغذية المشاعر والإشباع العاطفى للضحية، وهو شائع ضمن التركيبة الأسرية حيث المساحة الأوسع لاستخدام العاطفة فى التغرير.

تفيد التقارير الإحصائية بأن التنمر من الخطورة التى ربما تقود الضحية للانتحار أو تعزيز الكراهية الذاتية للمجتمع، خاصة فى مرحلة الطفولة فى المدارس جراء السخرية من دلالات الفقر أو لون البشرة أو العيوب التكوينية، بدءًا من ارتداء الطفل النظارة، أو سماعة أذن طبية أو عيوب الإعاقة الحركية.

قد يحدث التنمر داخل الأسرة على شكل سخرية من قدرات الطفل الأضعف أو بسبب تفضيل البنين على البنات، كما هو شائع ضمن الموروث الثقافى فى الريف المصرى، وقد يصبح التنمر جماعيًا بين مجموعات متناحرة، أو تنمرًا قوميًا عندما تصبح السخرية والنكتة من مجتمع الريف أمرًا مألوفًا لا يشين المتحدث به، كما كانت البادئة اللفظية لدى إلقاء النكات تخص أبناء الجنوب فى مصر ومعها حفظت البادئة اللفظية بنعت الشخص بالسذاجة الكافية لإضحاك متلقى النكات.

عندما يتقادم التنمر فى المجتمع يصبح أمرًا محمودًا، بل يصبح أمرًا طبيعيًا يمكن التعايش معه وقبوله ضمن المعاملات اليومية فى إطار السهو أو حسن النية، مثل استخدام الطفل المريض بالسرطان، وهو حليق الرأس فى إعلان جمع التبرعات عبر القنوات التليفزيونية، أو كشف هوية الغارمات لدى تحريرهن من عقوبة السجن والمجاهرة بصورهن وهويتهن عبر القنوات الفضائية، حتى بعض الإعلانات التجارية التى قد تنطوى على تنمر معنوى التشدق بالسكنى فى المنتجعات الفاخرة وزغللة أعين الفقراء بأسعار الشقق التى تفوق أحلام الفقراء.

من الضرورى أن نفرد للتنمر الإلكترونى مساحة أوسع لدى الحديث عن التنمر، لأن فعل التنمر يؤتى فى الغرف الإلكترونية المغلقة وغالبًا ما تدعمه الصورة، ويتاح فى هذه الغرف فرص المشاركة الجماعية إمكانية نشر الرسائل بمنتهى اليسر، وحمدًا لله أنه تم تفعيل عقوبة الجرائم الإلكترونية، بل طرحها أمام الرأى العام ليتيقن الجميع من أن الدولة تسيطر للحد من شيوع التنمر.

ويتبقى فى حديثنا السؤال الأهم حول آلية ردع التنمر التى يمكن تطبيقها دون الحاجة إلى سن قوانين أكثر وحشية. يلزم تخصيص جزء لا بأس به من المواد التربوية التى تحقّر التنمر، والاستعانة بحديث المنابر الدينية وفضح هذا السلوك عبر القنوات الفضائية وحوارات النخبة.