رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهوة الملاك «2».. ياسر عبداللطيف يكتب: فاصل من سيرة ضحايا الحادثة التى هزت مصر الثمانينيات

ياسر عبداللطيف
ياسر عبداللطيف

نشرنا فى عدد الأمس الجزء الأول من قصة شهوة الملاك، من مجموعة «موسم الأوقات العالية» لياسر عبداللطيف، التى تتناول قضية اغتصاب «فتاة المعادى» التى دارت أحداثها فى منتصف الثمانينيات.

واليوم ننشر الجزء الثانى والأخير من القصة، حيث ينتقل الكاتب للحديث عن الضحيتين فى قضية الاغتصاب والظروف الاجتماعية التى أحاطت بهما.. كطالبين فى معهد تجارى فوق المتوسط، حيث كانت لهذه المعاهد أهمية كبيرة قبل ظهور الجامعات الخاصة.. ويتحدث عن الملابسات التى قادتهما إلى حى المعادى، حيث وقعت جريمة الاغتصاب على يد «صلاح أبوحلاوة ورفاقه»..

 

معهد اللاسلكى يجمع بين الطالب الثرى وزميلته الجميلة لتبدأ قصة غرام سينمائية

المحكمة قضت بإعدام صلاح أبوحلاوة المتهم الرئيسى.. وسعيد مرزوق يعيد سرد الحادثة فى «المغتصبون» 

حمدى الوزير يتورط فى دور المغتصب.. والسوشيال ميديا تثبّت صورته الذهنية

انفجار المخيخ فى حالات الإعدام شنقًا تصاحبه استثارة جنسية

مشهد«1»

حصل صفوت بسطويسى على الشهادة الثانوية من السعودية، حيث كان يقيم مع أبيه وأمه اللذين يعملان هناك. ولما كان من الصعب فى مُلك آل سعود التحاق طلاب أجانب بالتعليم العالى، عاد الولد الوحيد ليُكمل تعليمه فى القاهرة، وجاء معه أبوه فى مهمة محددة: أن يسجل الولد بإحدى الكليات ثم يعود إلى الرياض.

لديه الشقة فى مدينة نصر، واشترى له سيارة جديدة. لكن بعد معادلة الشهادة السعودية اتضح أن مجموع صفوت لن يؤهله للالتحاق بأى جامعة فى التنسيق، ولم تكن الجامعات الخاصة قد ظهرت بعد فى اقتصاد التعليم المصرى، فلم يتبق له سوى المعهد الفنى الصناعى بشارع الجلاء.. لكن الولد أبى واستكبر أن يتخرج فى النهاية فنّيًا، أى عامل يدوى.

فإن اقتضى الأمر معهدًا من ذوى العامين والشهادة المتوسطة، فليكن على الأقل معهدًا تجاريًا يجعله محاسبًا، وإن يكن فى الدرك الأسفل للياقات البيضاء. لكن حتى المعاهد التجارية فى القاهرة لم تكن لتقبله بهذا المجموع، وإذا كان مُصرًّا على هذا النوع من الدراسات، فعليه أن يلتحق بأحد معاهد الأقاليم.

لم يكن أبوه ليقبل له بغربة فوق الغربة. فهنا فى القاهرة شقتهم التمليك، وهناك أعمامه وأخواله فى شبرا والهرم ليراعوه بين حين وآخر، كما سيوصيهم الأب.

وبعد بحث واستقصاء، اهتدى الولد ووالده إلى معهد لا يخضع لنظام التنسيق بشارع مجلس الشعب قرب وسط المدينة يقال له «معهد اللاسلكى»، زعم مسئولوه أنّه يضمن لخريجيه وظيفة ضابط اتصالات فى المطارات أو السفن التجارية. كان اللقب مغريًا: ضابط اتصالات.. ضابط اتصالات.. ضابط اتصالات.. ليكن.

وفى ذلك المربع الملىء بالوزارات والمصالح الحكومية، والمحصور بين شارع قصر العينى وشارع مجلس الشعب وشارع ضريح سعد وشارع المبتديان، تتناثر عدة مدارس من طراز خاص قريبة من معهد اللاسلكى، فهناك مدرسة «حُسن المسرَّات الثانوية المشتركة»، وهى مدرسة خاصة بالمصروفات لا تقدم تعليمًا أجنبيًا أو مميزًا، هى فقط بوابة لدخول التعليم الثانوى العام لمن لم يحصلن أو يحصلوا على مجموعات مؤهلة فى الإعدادية.

ويجب ألا ننسى مدرسة «الإنشاء» التى قامت بالأساس على فكرة فصول التقوية المسائية. ولاقت الفكرة نجاحًا ساحقًا لجمعها مساءً بين طلبة مدارس البنين وطالبات ثانويات البنات فى فصول واحدة، فيكون التعارف والتعليق، وتعليق الآمال طويلة الأمد أو قصيرته.

دخل صفوت ذات مساء إلى قاعة المحاضرات ليحضر درس شفرة موريس وهى من فنون البرق والتليغراف، ليجد الطلبة جالسين وأمامهم سندانات الإسكافية التى توضع عليها الأحذية مقلوبة ليدق الجزمجى مساميره فيها يركب نصف النعل مقصوصًا من إطارات طائرات أنتينوف الروسية البالية.

كان الطلبة يدقون بالمطارق على الأحذية صبيانًا وبنات. لم يفهم صفوت جيدًا وظنّ أنه أخطأ المكان. ما للجزمجية والأحذية باللاسلكى والشفرات، لكنه تعرف على زميلته منى الدَنَف تمسك بشاكوشها كأمهر جزمجى. وقبل أن يدرك تمامًا الموقف رأى أحد الطلبة ينسحب من أمام سندانه وحذائه المشهر فى وجه السقف، ليجرى خلف طالبة خرجت بعد استئذان المحاضر وهو يصيح «أنا وراك لما أدوبك يا سكر» وأطلق صفيرًا رفيعًا إذ يمرق من باب القاعة.

مشهد«2»

منى الدنف تخرجت فى حسن المسرَّات المشتركة إلى معهد اللاسلكى، وغنى عن القول إنها كانت من طالبات الإنشاء المسائية أيضًا. ومدرسة حسن المسرَّات اسم على مسمى. كنت ترى الطلبة متأنقين والطالبات متزينات بماكياج كامل فى الصباح الباكر تدق كعوبهن العالية أرصفة شارع المبتديان وتسمع فى الجو همسهن رقيقًا كاليمامات.

تسكن منى حى المنيل المشهور، وتعبر جسر قصر العينى سيرًا على الأقدام مع عشرات البنات فى المرايل الكحلية يغبطنها على التبرج المتاح فى حسن المسرات، الذى تحظره كل المدارس بصرامة لا تطبق على أى شىء آخر فى العملية التعليمية. 

بنات المير دى ديو الفرنسية يلبسن قمصانًا صفراء، وبنات قصر العينى الثانوية ومدرسة السنية التاريخية يلبسن المريلة الكحلية أو تنورة من اللون نفسه مع قميص أبيض. أما طالبات حُسن المسرّات لا، كل يوم فى هندام وذوق مختلف. وهكذا، ظلّت منى تتحرك فى مربع حى سعد زغلول والمنيرة طوال فترة الثانوية وما بعدها. 

سيارة صفوت من طراز «بونى» أول إنتاجات شركة هيونداى الكورية. لم تكن للسيارات الكورية سمعةٌ طيبة وقتها، لكنّ تصميمها الذى يحاكى طرزًا يابانية أكثر جودة وشهرة انطلى على منى الدنف. ومع الأداءات المتعالية لصاحب البونى، وسط أغلبية من الطلبة البائسين، وإذ كان الصلف والغرور جذّابين للجنس الآخر زمنها، سرعان ما اشتبك صفوت ومنى فى علاقة.

كان اسمه يدهشها، تجده مثيرًا فى حد ذاته، صفوت صفوت صفوت. اسم نادر لا تذكر أنها عرفت شخصًا يحمل هذا الاسم إلا لاعب كرة شهير اعتزل منذ سنوات. وإذا أضيف لهذا الاسم اسم عائلته صار جرسه الموسيقى علامة مسجلة على تلك الطلّة الواثقة التى تعجبها: صفوت بسطويسى!

فى الليلة المشئومة رفضت رفضًا باتًا أن تذهب معه إلى شقته فى مدينة نصر، وتحججت ببعد المسافة بين المنيل وبيته. فكر فى المعادى؛ فشوارعها المشجرة يلفّها ظلام لا يقطعه بصيص ولا يمر به عابر. وبالفعل أقنعها بأن المعادى قريبة من المنيل.. سيجلسان هناك فى سيارته فى «هدوء»، يشربان زجاجتى بيرة ويتكلمان قليلًا ثم يعيدها إلى المنيل قبل العاشرة. وهناك ركن السيّارة البونى فى شارع «القنال» المظلم تحت أشجار الكافور العتيقة.

«الدنيا كحل!» قالت منى خائفة ومستثارة فى الوقت نفسه. قال لها صفوت: «أحسن». ثم فتح زجاجتى البيرة وقدم لها واحدة آملًا فى أن يجعل الكحول ليلته لينة. بدأ بقواعد التهذيب وإمساك الأيدى الرومانتيكى. لاحظ استسلام يدها فى كفه العريضة؛ تركتها دون تفاعل ولا انسحاب، فاعتبرها علامة طيّبة.

مشهد«3»

لم تكن العتمة تامة، فبخلاف أضواء المدينة التى تترامى من بعيد منعكسة على السماء، يستطيعان تمييز خياليهما، كانت ثمة لمبات حمراء وخضراء متناهية الصغر تومض وتنطفئ فى نظام غامض من جهاز الكاسيت فى السيارة. إيقاع أضوائها يتراقص وفق لحن الأغنية الدائرة، لكن لما كان الصوت منخفضًا عند درجة الصفر لدواعى التخفى، بقت تلك الذبذبات الملونة تتراقص بشكل عشوائى غير مفهوم وتاهت وداخت خلفها رأس منى تمامًا وزجاجة البيرة «سعة ٧٥٠ سنتيلتر القديمة» لم تبلغ منتصفها.

قبّل خدها قبلة خفيفة استكشافية فبقيت ساكنة، فتشجع وهبط بشفتيه على عنقها وأمعن فى التهام الشرايين الحساسة تحت أذنها فبدت أمارات الاستجابة أخيرًا، إذ وضعت كفها على وجهه تقربه برقة من عنقها أكثر فأكثر، وتضغطه عليها. بلغ مؤشر الحرارة أوجه وجنَّ جنون اللمبات الصغيرة فى كاسيت السيارة الفخيم، وعندما أخذت يده تنزلق من على صدرها نزولًا حتى زر بنطالها الجينز تحله فالسوستة تفتحها، أفاقا بغتة على أشباح تدق على زجاج السيارة ووجوه والغة مخيفة تتطلع إليهما. ولم يكونوا سوى صلاح أبوحلاوة وخمسة من أصحابه.

كان ذلك بعد شهور من واقعة عتاب فتاة الكبدة واللحم المفروم. وكان يونس وعاطف قد نجحا فى الامتحانات نفسها، وبلغا الصف الثانى الثانوى «شعبة أدبى» بقدرة قادر. 

نفدت حبات القرنفل المُسكّنة، واستيقظ الألم عفيًا أطار النوم وجعل أبوحلاوة يعضّ فى البطانية الميرى التى يرقد فوقها. وكأن سيخًا رفيعًا من حديد ينغرس فى فكه الأعلى حتى المخ. يسمع نبض قلبه فى عظام وجهه كدقات ساعة طنانة فتطفر الدموع من عينيه رغمًا عنه.

يدعو الله أن يأتى الصباح سريعًا، فيستيقظ السجن ويأتى له العم مصيلحى بحبات قرنفل جديدة أو قرص أسبرين أو ربما بخبر من الإدارة عن إحالته إلى المستشفى. ولكنه يعرف أن الله لن يلتفت إليه، وربما كانت تلك الآلام القاتلة تكفيرًا عن ذنوبه التى لا تحصى قبل أن يلقى وجه كريم، وعليه أن يعانيها للنهاية. ولكن ها هو الأمل يبتسم، ويستجيب الله لعبده الخطّاء، إذ انفتح باب الزنزانة بعد الفجر بقليل عن وجه عم مصيلحى وبجواره طبيب السجن فى معطفه الأبيض، أخيرًا سيأخذونه إلى المستشفى. ولكن لماذا يجىء المأمور بنفسه أيضًا لهذا الشأن؟ ومن هؤلاء الضباط والرجال الآخرون فى بدلهم الملكية؟ لا يستلزم التحويل إلى المستشفى كل هذه التشريفة! فهم الأمر بعد لحظة من وجوههم الجادة، وتراجع إلى عمق الزنزانة مذعورًا وخارت كل قواه. لم ينم طوال الليل.

أمسكه عسكريان قويان من تحت إبطيه وأخرجاه شبه محمول. احتضنه العريف مصيلحى على باب الزنزانة وربت على رأسه، وقال «اجمَد يا صلاح وخليك راجل.. كلها دقايق». كان ألم الأسنان قد طار تمامًا وتبخّر. ما من مسكّن أقوى من خوف بهذا الحجم. 

مشهد«4»

بعد أربع سنوات من الواقعة التى هزت المجتمع المصرى عام ١٩٨٥، أعاد المخرج سعيد مرزوق إنتاجها فى فيلمه «المغتصبون»، مع تغيير لبعض التفاصيل كالأسماء والأماكن. احتفظ للمجرم الأول باسم عائلته «أبوحلاوة» وغيّر اسمه الأول. لعبت دور الفتاة الضحية نجمة زمنها «ليلى علوى».

أراد المخرج، الذى عُرِفَ بتوجهه شبه النسوى أن يجعل جسد المرأة نقطة ضعيفة تتقاطع عندها صراعات المجتمع وتردياته، كما سبق وقدم فى أفلامه القديمة منذ «الخوف– مكان للحب» وحتى «المذنبون» ومرورًا بـ«أريد حلًا» الذى قيل وقتها إنه أسهم فى تغيير قانون الأحوال الشخصية الظالم للنساء.

السينمائى الطليعى القديم لم يتبق منه فى هذا الفيلم سوى موسيقى تصويرية وضعها الملحن محمد هلال فى محاكاة صريحة لألبوم «أوما جاما» لفريق الروك الإنجليزى الأشهر بينك فلويد، الذى كان مرزوق قد وظفه من قبل فى فيلمه «الخوف» دون إشارة تحمى حقوق الملكية الفكرية ولو رمزيًا. جاء الفيلم متماشيًا مع التيار الرئيسى لسينما الثمانينيات فى مصر. فلا هو اقترب من الموجة الطليعية التى كانت فى ذروتها بأسماء كمحمد خان ورأفت الميهى وخيرى بشارة وعاطف الطيب، ولا هو جنح ناحية سينما المقاولات الهزلية قليلة التكلفة.

كان فيلمًا عاديًا يمكن أن يخرجه أحمد فؤاد أو نادر جلال أو محمد عبدالعزيز. استعان مرزوق لتجسيد عصبة المغتصبين بنجوم الصف الثانى السابق ذكرهم: حمدى الوزير ومحمد كامل وحسن العدل مع الممثل المخضرم محمد فريد. لعب محمد كامل دور المتهم الأول صلاح أبوحلاوة، الوحيد منهم الذى حُكِمَ عليه بالإعدام، وهو بالفعل يشبهه قليلًا على الأقل فى شاربه المستطيل، وإن كان كامل أطول كثيرًا وأقل شراسة فى الملامح من أبوحلاوة الحقيقى.

مشهد«5»

بعد عامين لعب حمدى الوزير دور مغتصب آخر فى فيلم «قبضة الهلالى» عام ١٩٩١ من بطولة لاعب الكونغ فو يوسف منصور وإخراج إبراهيم عفيفى. بدا ذلك التسلسل انحدارًا فى مسيرة حمدى الوزير الفنية من محمد خان وعاطف الطيب إلى إبراهيم عفيفى مخرج الأفلام الرخيصة، مرورًا بسعيد مرزوق فى لحظة تدهوره الفنى. 

كما أدى تكراره لدور المغتصب فى فيلمين تجاريين على التوالى إلى ترسيخ تلك الصورة عنه. حاول بعد ذلك، فى عام ١٩٩٧ وفى احتفالية بالمسرح القومى لتأبين الكاتب السورى سعد الله ونوس، أن يستعيد صورة الممثل الجاد، فلعب دورًا رئيسيًا فى مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» التى أخرجها شقيقه حسن الوزير لهذه المناسبة، لكن العرض قُدِم بالتوالى مع نسخة أخرى للمسرحية ذاتها وعلى خشبة مسرح الأزبكية نفسه قدمتها فرقة مسرح المدينة اللبنانية من إخراج نضال الأشقر. كانت المقارنة بين العرضين مجحفةً، لا لحمدى الوزير وشقيقه فقط، لكن لكل تراث المسرح المصرى العريق. 

فشلت محاولة الوزير فى إنقاذ مسيرته من بين براثن صورة المغتصب، وطواه النسيان بعدها، خاصة مع اضمحلال صناعة السينما والدراما التليفزيونية فى مصر، وظهور أجيال جديدة من الممثلين يفوقون كميًا حاجة السوق المنكمشة. حتى شاعت السوشيال ميديا جماهيريًا بالتزامن مع انتفاضات الطبقة الوسطى سياسيًا على المستوى العربى. ومع تلك الوسائط ظهر جيل جديد من فنانى الجرافيك والكاريكاتير والفيديو يتلاعبون بالصور ويخطفون معانيها لسياقات مختلفة فتتولد مفارقات مضحكة، ويتخلق نوع جديد من الكوميديا المكتومة. ضحكٌ كالبُكا لا من مرارة السخرية، لكن من توقف المفارقة عند درجة الصفر، من ارتدادها على ذاتها والتهام مُطلقها لنفسه مُلتفًا وعالقًا فى سخافته التى هى سخافة الحياة نفسها. كأنّه يقول لها ها هى بضاعتك أردّها إليك أيها المجتمع. وكأنها، وإن صح التعبير، نوع من «الكوميديا الدادائية». وفى هذا السياق بُعثت صورة حمدى الوزير من جديد على السوشيال ميديا. صار أيقونة كوميدية عن المُغتَصِب تطابقت مع أيقونة صلاح أبوحلاوة المنسية بعد إفراغها من محتواها المأسوى. أُخذت لقطة ثابتة له من فيلم قبضة الهلالى، وهو يلوى شفته العليا جانبًا ويغمز بإحدى عينيه، من مشهد يتوعد فيه غريمه فى الفيلم يوسف منصور، ووظفت كاريكاتوريًا فى عشرات المفارقات بعد أن أُزيحت دلالتها من منطقة التحدى إلى المنطقة التى تخصّ فكرة الاغتصاب والذكورة والجنس عمومًا، هى قصة عن الانزياح. تحرك حمدى الوزير من السينما الطليعية نحو سينما الأكشن التجارية، من ابن البلد الطيب إلى المغتصب، من المغتصب الثانوى ترقى إلى المغتصب الرئيسى ليزيح محمد كامل من الذاكرة الشعبية الضعيفة.

مشهد«6»

لقطة من فيلم «قبضة الهلالى» تشتهر باعتبارها لقطة من فيلم «المغتصبون». وعاد حمدى الوزير إثر ذلك للظهور على شاشات التليفزيون فى البرامج الحوارية، لا للحديث عن أدواره ولا عن نفسه كممثل، لكنه عاد كأحد نجوم السوشيال ميديا الشعبيين، كأحمد التباع وسعيد الهوا والخليل كوميدى. وبدا غير مستاء، بل وسعيد بتلك التوظيفات الكاريكاتورية لصورته، فعلى الأقل أخرجته من أدراج النسيان. حتى ظنّ بعض الناس أنه يقف خلف تلك الحملة الكوميدية بنفسه، ليعود إلى الأضواء من جديد. ولكن أنى له بهذا الوعى الفائق، وهو المنتمى لحقبة الثمانينيات الإشكالية، وأنى له بالقدرة على تطويع تلك الوسائل والوسائط المعاصرة لمصلحته؟!

قطع عاطف الضاحية بطولها سيرًا على الأقدام فى ربع ساعة، من أقصى جنوبها حيث بيته، إلى أقصى شمالها حيث بيت يونس. يريد أن يعيد له كتاب «ثرثرة فوق النيل» حسب الاتفاق، فالرواية تخصّ والد يونس وهى من كتبه المفضلة، لكن بخلاف إعادة الكتاب كان توّاقًا إلى أن يزفّ لصديقه بُشرى الخلاص. كان يونس قد نسى أمر أبوحلاوة منذ وقتها، ولم يندهش كثيرًا عندما تم القبض عليه مع الخمسة العاطلين الآخرين فى القضية التى عرفت إعلاميًا بقضية فتاة المعادى. لكن بالنسبة لعاطف، كان أبوحلاوة هاجسًا يوميًا منذ ليلة عتاب فى الربيع الماضى. فعاطف هو من تهور وكاد أن يشتبك معه فى منطقته وأمام بيته. وللحظ التعس فإن موقع بيت عاطف بنهاية شارع ١٥ يتاخم حدود طرة البلد وهو نقطة عبور شبه يومية لأبوحلاوة عند مروره بين الحيين خارجًا من منطقة طرة أو عائدًا إليها.

وفى الأغلب، كان يصادف عاطف واقفًا فى شباك غرفته كعادته، فيتوقف أمامه ويتأمله بابتسامة باردة ويمسد جانبى شاربه كمن يتوعده. كان عاطف يرد بابتسامة استهانة مناظرة، لكن مع الوقت تسرب إليه الخوف كمرض نبع من الداخل. تصاعد من هاجس بسيط حتى صار رعبًا مقيمًا، فأمسى يسارع بإغلاق النافذة ما إن يلمحه قادمًا. لم يكن يخشى شخصيًا من ذلك العرص، ففى اشتباك حقيقى وإذا سقطت الأحكام المسبقة قد يصرعه. وتذكر نصيحة عطوة صديقه حارس مرمى فريق المدرسة: إذا تشاجرتَ مع من هو أقوى منك لا تلتحم معه جسديًا وناوله الضربات من بعيد، ركلًا ولكمًا.

وفق سيناريو مماثل، ونظرًا لفارق الطول بينهما، فعاطف كان ليهزم أبوحلاوة لو أتيحت مثل تلك المواجهة، وواتته أثناءها سرعة بديهة المقاتلين المهرة. لكن خوفه، وبشكل غامض، كان متعلقًا بأمه وشقيقته وببيتهم فى العموم. لم يكن على يونس، لحسن حظه، أن يعانى من كل هذا؛ فنظرًا لموقع بيته على الطرف الآخر من الضاحية، لم يصطدم بوجه أبوحلاوة منذ ليلة عتاب، إلا على صفحات الجرائد وفى التليفزيون.

جلس الاثنان فى الشرفة المثلثة الملحقة بغرفة يونس، وقال عاطف إن أنيس زكى بطل ثرثرة فوق النيل شخصية مذهلة، وإنه يفكر مثله تمامًا، لكنه طالما ظنّ أن الناس فى الستينيات كانوا سعداء. قال يونس إن التعاسة قديمة.. واتخذ الاثنان سمت كهلين عركتهما الحياة، وصمتا قليلًا يتأملان الشارع فى الأسفل.

وجدها عاطف لحظة مناسبة ليلقى خبره السعيد، فقال: «مش أبوحلاوة خلاص! باى باى!» قال يونس: «غار فى داهية، قريت فى الجرنال النهارده». وفى لحظة، ودون اتفاق، تذكر الاثنان وجه عتاب، وقال عاطف مقلدًا صوتها الأخن: «آكل كبدة، آكل سجق، لحمة مفرومة، فول بقوطة.. أى حاجة.. وبعد كده اللى عايز يخلص يخلص». وانفجرت ضحكاتهما فى الشرفة.

حلمت أننى قابلت الفنان حمدى الوزير وجهًا لوجه فى ذلك البار بوسط القاهرة الذى يديره رجل عراقى غامض. كان الفنان يجلس وقد شاخَ على طاولة اصطفت عليها أطباق شرائح الخيار والجبن الأبيض بالطماطم والفول النابت وأمامه زجاجة ستيلا من الطراز القديم سعة ٧٥٠ ملليلتر. كنت واقفًا أمامه كمتهم ماثل أمام وكيل نيابة وهو يجرع من البيرة ويقضم شرائح الخيار، ويتأملنى بين الغضب والتهكم.

قال لى: «تُنصّب نفسك مؤرخًا وناقدًا سينمائيًا وأنت تزيف الأحداث وتغير الحقائق». قلت له «لستُ ناقدًا سينمائيًا ولا أرغب فى كتابة أى تاريخ. أنا فقط أتأمل الأحوال وأصف الأفعال كما قال الشاعر، ولى فيها مآرب أخرى كما قال موسى النبى». دعانى للجلوس وهَمّ فى بدء حجة جديدة، لكن الشلة كلها وصلت لحظتها، الفنانون أحمد عبدالعزيز ومحمود مسعود ومحمد كامل وحسن العدل وحسن الوزير، فانشغل بأصدقائه، ووجدتها أنا فرصة وانسحبت خارجًا من المكان. استوقفنى العراقى مدير البار عند الباب وقال «لم تدفع حسابك»! قلتُ: لم أطلب شيئًا والحساب عند الأستاذ حمدى».

تذكر تقارير الطب الشرعى فى عدد من الدول التى تُطبِق حُكم الإعدام شنقًا، أن نسبةً كبيرة من المشنوقين، إذ تسقط أجسادهم فى البئر بعد فتح غطائها المعروف فى لغة السجون المصرية بـ«الطبلية»، وإذ تتدلى تفارقها الحياة ببطء، فإن الذكور تنتصب أعضاؤهم التناسلية لدرجة قذف المنى عند الموت أو بعده بقليل. كذا المشنوقات من النساء، يعتورهن انتفاخ فى الأعضاء التناسلية الخارجية كالشفرين والبظر. وفى إنجلترا القرن التاسع عشر، زمن تشارلز ديكنز، وحين كان الإعدام شنقًا لا يزال معمولًا به، سُميت هذه الظاهرة شعبيًا بـ«شهوة الملاك».

الظاهرة يفسِّرها العلماء بتأثير ضغط حبل المشنقة على المخيخ. فإصابات المخيخ والحبل الشوكى، لدى الأحياء تصاحبها عادة حالة الانتصاب المتواصل والمؤلم المعروفة بالقُساح. وأشهر حالات «شهوة الملاك» فى تاريخ الطب الشرعى المصرى، التى أشار إليها المؤرخ الأديب صلاح عيسى، رُصِدَت لدى المشنوقين الثلاثة محمد عبدالعال وعرابى الصوامعى وعبدالرازق يوسف من الرباعى الذى شكل عصابة ريا وسكينة لقتل النساء وسرقة مصوغاتهن فى الإسكندرية بين عامى ١٩١٩ و١٩٢٠. أما حسب الله مرعى رابعهم، وزوج ريّا، فلم يمرّ بهذه الخبرة لحظة إعدامه.

كان التفسير الشعبى لذلك وقتها هو انعدام رجولة حسب الله الذى كان معرّصًا قوادًا بالسليقة. ولأن ولدنا وابن مناطقنا صلاح أبوحلاوة مجرم محترم، ولا يقل جلاله الإجرامى فى سجل الجنايات المصرية عن عرابى الصوامعى أو محمد عبدالعال فمن المرجح أنه ختم تاريخه المشرف بشهوة الملاك، واستحق اغتسالًا رمزيًا لم ينله، إثر جنابة ما قبل الطبلية وجنابة ما بعدها.