رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميراث الماضى الذى يصلحه الرئيس

لمس الرئيس السيسى بالأمس جرحًا من أهم جراح مصر، كان الرئيس يتحدث أمام المنتدى الثانى للتعليم العالى، وقال ملاحظات تدل على فهم عميق لمشكلة التعليم فى مصر.. لقد كان التعليم أهم ركائز تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على.. أدرك الرجل أهمية التعليم فاهتم به.. أسس المدارس وأرسل البعوث للخارج وأتاح الفرص للنابغين من أبناء الشعب.. رغم انتكاسة تجربته، إلا أن التعليم المصرى ظل فى حالة جيدة فى عهد خلفائه وشهد نهضة أخرى فى عهد حفيده إسماعيل.. لم يؤد الاحتلال الإنجليزى إلى أى نتائج سلبية على التعليم، بل أدى إلى ازدهاره، وإن قيل إن الإنجليز كانوا يهدفون لتخريج موظفين يعملون فى دوائر الحكومة المصرية.. بعد الحرب العالمية الثانية أدرك الجميع أن التعليم ليس رفاهية، وقبل ثورة يوليو بشهور قليلة رفع وزير معارف مصر طه حسين شعار التعليم كالماء والهواء.. واصلت الثورة إتاحة التعليم المجانى، وأقرت مجانية التعليم الجامعى، وبنت مصر تسع جامعات إقليمية، بالإضافة للثلاث التى كانت موجودة قبل الثورة.. حالة النهضة العمرانية والصناعية جعلت كلية الهندسة هى كلية القمة الأولى، تشاركها فى ذلك كلية الطب لتواكب التوسع فى تقديم الخدمات الصحية فى كل أنحاء مصر. رغم أن كليتى القمة كانتا كليتين عمليتين تستدعيان التفوق فى العلوم والرياضيات حدث تضخم خرافى فى كليات الدراسات الإنسانية.. تم الاستقرار على قاعدة تقول إن الكليات العملية للنخبة المتفوقة، وإن متوسطى القدرات والمجاميع مآلهم إلى الآداب والحقوق، والتجارة.. الآداب هى كلية الثقافة الرفيعة والمفروض أن تضم نخبة النخبة من العباقرة.. هى كلية طه حسين ونجيب محفوظ، والمفروض أنها تخرج فلاسفة، وكتابًا، ومترجمين، ومؤرخين، ونقادًا، نفس الأمر ينطبق على الحقوق، وربما على التجارة بدرجة أقل.. أتيحت فرص فى هذه الكليات لعشرات الآلاف سنويًا وتحولت الكليات لمدارس ثانوية لا تعليم فيها، ولا حضور، ولا شىء سوى الحصول على شهادة فى آخر الأربع سنوات. كان المفروض أن يتوجه الطلاب الأقل تفوقًا لكليات ومعاهد عملية غير الطب والهندسة، مثل التعليم الفنى، والمعاهد الصناعية، والتكنولوجية، ومعاهد الإلكترونيات، لكن ذلك لم يحدث، تحول كل متوسطى القدرات لدارسى فلسفة وآداب وقانون.. سعداء الحظ منهم وجدوا فرصًا كمدرسين للمواد النظرية، ولحق خريجو الثمانينيات بقطار القوى العاملة، والتحقت الأجيال الأحدث بمهن يدوية أدت بالعاديين منهم إلى مكانة أقل فى السلم الاجتماعى.. لم يعد مفهومًا لماذا تتحمل الدولة نفقات تعليم شاب أربع سنوات فى كلية الحقوق ليعمل فى النهاية عاملًا فى مقهى؟ من حق كل مصرى أن يتعلم طبعًا ولكن نوع التعليم المناسب لقدراته.. هذا الشاب لم يجد نفسه فى دراسة القانون، ولم يتفوق فيها، ولم يجد «واسطة» أيضًا فعمل فى مقهى.. لم يكن متفوقًا ولا محظوظًا فسقط من القطار.. كان ذلك استمرارًا لسياسة التسكين والإهمال ورشوة الناس بالفتات حتى لا يثوروا.. ببطاقة تموين وفرصة للابن فى كلية نظرية مع الآلاف غيره يشعر البسطاء أن الأمور بخير.. كان هذا هو مخدر البسطاء حتى يناير ٢٠١١.. مع تدهور الجامعات الحكومية العريقة، وتراجع الميزانيات، وتضخم الأعداد بدا أن هناك فرصة للكسب وجنى المليارات سنويًا كأرباح.. فجأة ومع بداية الألفية ظهرت جامعات خاصة لا نعرف خبرات سابقة لبعض ملاكها فى التعليم، ولا امتدادات دولية لها، وحصلت على رخص لتصبح جامعات خاصة.. كان الطبيعى أن يدعم رجال الأعمال الجامعات الحكومية بالتبرعات، كما يحدث فى الغرب، أو أن يؤسسوا جامعات أهلية لا تهدف للربح على نمط هارفارد وكامبريدج، وأكسفورد وكل الجامعات العريقة.. لكنهم لم يفعلوا هذا ولا ذاك.. وجدوا أن الجامعات الخاصة هى الدجاجة التى تبيض ذهبًا، فتركوا كل مشاريعهم وتسابقوا لتأسيس الجامعات الخاصة.. أصبحت جامعات مصر العريقة هى جامعات الفقراء.. وأصبحت لكل شريحة اجتماعية جامعات خاصة بها، وكان ذلك معول هدم وتفرقة آخر بين المصريين من معاول كثيرة جدًا تم ضربها.. كان هذا هو الوضع الذى ورثته الدولة فى عهد الرئيس السيسى والذى بدأ هو تغييره على الفور.. تم تأسيس جامعات أهلية لا تهدف للربح، مصاريفها توجه لتمويل التعليم فيها، أقسامها عملية فى معظمها، وعلومها بنت اللحظة الراهنة يدرس الطلاب فيها الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا الاتصال، وكل ما يلبى احتياجات المستقبل، والأهم أنها تستقى نظمها ومناهجها وامتحاناتها من جامعات عالمية.. خطوات ضرورية تأخرت فيها مصر عشرين عامًا على الأقل.. لكن هذا هو قدر الرئيس السيسى أن يصلح أخطاء الماضى بيد ويبنى المستقبل بيد أخرى.. والجميع يثق فى قدرته على ذلك.