رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وليد علاء الدين: لا ألقّن القارئ وإنما أدعوه للتفكير.. والأدب لعبة «انتقاء ومزج»

 الكاتب وليد علاء
الكاتب وليد علاء الدين

يؤمن الكاتب وليد علاء الدين (1973) بإمكانية دمج القوالب الأدبية المختلفة في نص واحد، بل ويرى أن التصنيفات كالرواية والقصة والنوفيللا..إلخ، هي صنيعة النقاد، وهي فعل قادم من خارج العملية الإبداعية، ويصف تلك التقسيمات بأنها "سايكس بيكو" الأدب.

لذلك يمكن للقارئ رصد تلك التمازجات في روايات وليد علاء الدين: رواية تضم في أحشائها نصوصًا قصصية ومسرحية، أو أدب رحلة.. إنها عملية تهجين إبداعي متواصلة.

وعبر مسيرته الممتدة مع الكتابة، حصد وليد علاء الدين عدّة جوائز أدبية، أبرزها جائزة ساويرس لأفضل نص مسرحي عن مسرحية "72 ساعة عفو"، وجائز الشارقة للإبداع العربي عن مسرحية "العصفور"، وجائزة أدب الحرب الممنوحة من صحيفة أخبار الأدب، في مجال القصة القصيرة.

"الدستور" حاورت وليد علاء الدين حول مشروعه الأدبي، وترجمة روايته "كيميا" إلى اللغة الفارسية وغيرها من الملفات الإبداعية.

يقول باختين: "الرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الذي يرفض الاكتمال".. وتتجلى تلك المقولة في روايتيك "ابن القبطية" و"كيميا".. هل يمكننا القول إن "التداخل الأجناسي" ملمح أساسي في مشروع وليد علاء الدين الروائي؟

عمليات التجنيس والتصنيف ومحاولات وضع قوالب.. أمور خارجة تمامًا عن حقل الكتابة، بمعناها الأدبي، والإبداعي. تأمل معي: فعل "أَدَبَ" في اللغة تعني "أقام مأْدُبة، دعا إلى مأْدُبة" والمأدبة أن تتفنن في إبداع صنوف من الطعام ُترضي الحواس الخمس. وفعل "بَدَعَ" معناه في المعجم: "أَنشأ على غير مثالٍ سابِق، أَحْدَثَ شيئًا جديدًا، اِبْتكَر"... فكيف لمنتَج بفتح التاء، ينتمي للأدب والإبداع أن يتقيد بما رصده نقاد ومصنفون من كتابات الآخرين وقالوا هذه معايير الرواية؟ وكيف لمنتِج بكسر التاء منشغل بتجهيز مأدبة إبداعية أن يقاوم رغبته في كسر القيود والمزج بين الأجناس وصنع تفريعات في شوارعها وشق سكك في دروبها والقفز من فوق أسوارها واختبار متانة أقفالها وحصانة أبوابها؟ نكتشف بعد فترة من مصاحبة الكتابة أننا مجرد أطفال يتأملون محيطهم معتبرين أن كل شيء صالح لأن يتحول إلى لعبة، فقط لو يكف الكبار عن الصراخ والتوبيخ. 

هناك مجهود بحثي جلي في رواية "كيميا".. حدثنا عن سفرك وقراءاتك تحضيرًا لكتابة الرواية.

نعم، لكن اسمح لي بتخفيف أصداء التركيبة التي جمعت بين "مجهود" و"بحثي" لدرجة تخيلت معها نفسي باحث كيمياء في مختبر يتعامل مع الأشياء بحساسية خشية أن تنفجر. فلنسمه انشغالًا، مجرد سؤال ألحّ على عقلي، ولأنني اعتدت أن أصنع الأجوبة بنفسي، أو أن أصل إليها بنفسي، فقد انتهزت فرصة سفري في مهمة عمل إلى قونية، أرض الحدث، وصنعت قائمة قراءة، واستمتعت بالركض وراء القصص والحكايات والمعلومات من أطراف متناقضة ومتصارعة، ورأيت كيف يستخدم كل فريق المعطيات نفسها ليصل إلى نتيجة تحقق مراده. وهو تقريبًا مبدأ ثابت في الحياة. الجديد هذه المرة أن كل الفِرق -رغم الخلافات الجوهرية التي لا مجال لحلها، لأن حلها ينفي وجود الجميع- اتفقوا على تجاهل "كيميا" الفتاة البريئة التي لا صوت لها. بل إن الروائيين السابقين استغلوها بمنتهى القسوة لتأكيد أساطير الأقوياء! هذا ما أردت مشاركة القارئ فيه معي، لم أرغب في تحويل الأمر إلى صرخة أضع فيها خلاصة الفكرة، بل أن أصحب القارئ معي في رحلتي وصولًا إلى الصرخة ليصرخ معي. وهو الأمر الذي انعكس في بناء الرواية التي اتخذت شكل الرحلة، ولأنني رأيت بعيني خلال البحث كيف يزيفون المعلومات بوضعها داخل سياق يخدم أفكارهم، فقد حرصت على أن تكون كل معلومة ذات صلة بالتاريخ موثقة، ورحلتي كذلك في الأماكن كانت واقعية، أما رحلتي في الزمن فكانت هي النسيج التخيلي الذي قدمت فيه الحقائق وقراءتي لها. 

كيميا

 

أحالتنا رواية كيميا في ومضة إلى "محمد المنسي قنديل" وروايته "كتيبة سوداء".. وقنديل هو صاحب مقولة الأدب الجيد جغرافيا جيدة".. فهل تؤمن بوجهة النظر تلك؟

أفهم العبارة كالتالي: الفهم الجيد للجغرافيا ينعكس إيجابيًا في إنتاج الأديب، تفاديًا لفخ "الأدب الجيد". بهذا المعنى أجدني متفقًا مع المقولة. لعبة الأديب الأساسية استخدام خياله في بناء عالَم يمنح المتجول فيه شعورًا بأنه عالم حقيقي، حتى لو كان فانتازيًا، فعليك أن تمنح القارئ شعورًا بأن هذه الفانتازيا التي صنعتَها حقيقية. كيف يحدث ذلك؟ اللعبة لعبة انتقاء ومزج، الأديب ينتقي من الموجود ليمزجه بصنيعة خياله، الذي هو في الأساس مزيج شديد الخصوصية مما هو موجود؛ نحن لا نستطيع تخيل أشياء غير موجودة بالأساس. لذلك التخييل الجيد هو مزج متقن من مصادر شتى بمساعدة الذاكرة الصورية، لذلك أتقبل مقولة أن الفهم الجيد للجغرافيا يساعد في صنع أدب متقن، ومع أهمية الجغرافيا لأنها مكان وزمان معًا، وهما أبرز عناصر الحكي، فإن كل فهم جيد لكل علم أو معلومة يستخدمها الأديب يُسهم في تشغيل خياله بإتقان بينما يطبخ مزيجَه الخاص. 

اشتغلت في "كيميا" على نزع الهالات عن أشخاص يُنظر لهم بكثير من التبجيل الذي يصل حد التقديس.. هل تؤمن بأن الرواية أداة لنحت الوعي وإزالة طبقات الغبار عن العقول؟

الرواية حوار مع الذات، شخصيًا أكتبُ لأقلّب الأمر الذي أنشغل به على كل وجوهه وزواياه. الهدف الأصيل من الكتابة -بالنسبة لي- هو نقل منهج التفكير في أمرٍ ما للآخرين. لا أكتب عن شيء وصلتُ إلى خلاصة محددة وقاطعة بشأنه، وإلا أصبح الأمر مجرد إتقان صياغة "حكمة الشهر"، أو مجرد موعظة أو خطبة نذكّر فيهما الناس بواجبات وأحكام لا تقبل المراجعة. الأدب -على العكس من ذلك- دعوة للمراجعة والتفكير في ضوء ما نسعى لإتقان عرضه من أفكار أو ما نضيء عتمته من زوايا، لا ألقن القارئ، إنما أدعوه للتفكير معي، حتى لو انتهينا إلى عدم اتفاق في الخلاصات، لأن التفكير بوصفه منهجًا هو المهم. فإذا كان هذا ما تقصده بعبارتك الجميلة "الرواية أداة لنحت الوعي وإزالة طبقات الغبار عن العقول" فإنني أوافق. 

كيف كانت ردود الأفعال التي وصلتك حول ترجمة "كيميا" إلى الفارسية؟

حسب ما يصلني من أخبار من الصحافة الثقافية، فقد نفدت ثلاث طبعات بعد فترة قصيرة من صدور الترجمة. ربما يرجع ذلك إلى ما اعتبره بعض النقاد هناك "إساءة إلى رموز وطنية"، وربما لأن كيميا ابنة ثقافتهم والرومي وشمس من رموز هذه الثقافة.. لكن ما شغلني بشكل مباشر هو اتفاق رسائل قراء كيميا في الفارسية مع رسائل قرائها في العربية، وهذه حكاية اسمح لي بذكرها.

عد صدور كيميا وصلتني رسائل من قارئات وقراء، تشير إلى أن كيميا زارتهم في أحلامهم، منهم من كتب إنه ترك الرواية لفترة فكانت تدعوه في النوم لاستكمال القراءة، ومنهم من كتب إنه رأى كيميا في المترو بينما يقرأ الرواية، وأنها- أو المرأة التي ظن أنها كيميا- قامت ومدت يدها له بورقة وطالبته بأن يقرأها بعد نزولها، لكنه خاف ورفض. في الرسائل كذلك إشارات إلى خشية البعض من استكمال الرواية لشعور بأنها بدأت تتسلل إلى عقولهم، ومنهم من انتابته ظاهرة الأحلام الصافية، وكتب لي ما حلم به، ومنهم من رأى طيف كيميا، وكتب لي: "تمام زي حضرتك ما وصفتها خفيفة زي الولد وشفافة"... إلخ من رسائل أربكني بعضها، ولا أخفيك أسعدتني كلها. 

الغريب أن الأمر تكرر مع قراء النسخة الفارسية، الذين راسلني بعضهم حول الأمور نفسها تقريبًا. تفسيري المتواضع أن هناك مكونات غيبية في أصل البنية الثقافية الدينية التي نشاركهم فيها، هذه المكونات- وإن كانت كامنة وخفية- تصنع فعل مقاومة شديد خلال القراءة، يسبب هزة للوعي، ويسمح للأحلام والخيالات بالتسلل وللمخاوف بالظهور. وأظنها إشارة جيدة إلى أن الرواية فتحت باباً للحوار مع العقل. 

ما الذي يجذبك لكتابة أدب الرحلة؟ وأي خصوصية تميزه عن باقي الأصناف السردية؟

أدب الرحلة نسيج إنساني عظيم، أقول دائمًا: إذا أردت أن تكتشف تفاصيل مكان أَدخل عليه عينًا جديدة. الغريب يرى ما لا يراه المقيم، فهو بحكم العادة ينظر ولا يرى. أما الغريب فكل شيء بالنسبة إليه جديد، له قَدْره من الرعاية وله فرصة لتأمله. الغريب -كل غريب- يمارس لعبة التفكيك وإعادة التركيب من أجل التواصل مع محيطه الجديد. ومن ينتبه إلى هذه اللعبة ويمتلك ملكات التعبير عنها في وسيط صالح للتداول: صوت أو كتابة، فقد امتلك قطعة لا يملكها غيره، تزداد القطعة قربًا من الأدب بقدر ما يمتلك صاحبها من معارف وقدرات فكرية، وخبرات سابقة... وحتى إن خلت من ذلك تظل مهمة، تاريخيًا، أو معلوماتيا، أو في حدها الأدنى إنسانيا لأنها منتج فريد لإنسان حاول التعبير عن نفسه في زمانه ومكانه. 

أصدرت آخر قصصك القصيرة قبل سنوات بعيدة. وكذلك صدرت مسرحيتك الأخيرة قبل سنوات.. هل هجرت كلا الصنفين لصالح الرواية؟

لم أهجر أي صنف كتابة، ولكني -كما تفضلتَ بالإشارة- صرت أمزج الأصناف لصالح الشكل الذي أراه أقدرَ على التعبير عن فكرتي. في "ابن القبطية" دمجت في النص النهائي مجموعة من القصص القصيرة غير المنشورة، وقصائد -منها ما هو منشور وما هو غير منشور، ونصًّا مسرحيًا نُشر مستقلًا فيما بعد بعنوان "صورة يوسف" ومقالات منها ما نشرته من قبل في زاويتي في صحيفة المصري اليوم. وفي "كيميا" اندمجت نصوص أدب الرحلة والرسائل في النص الأكبر. أما الرواية الأحدث وهي "الغميضة" فكانت تطويرًا مقصودًا لنص مسرحية تحمل عنوان "وشي في وشك" تصدر قريبًا عن دار بتانة، إذ جعلت الرواية رصدًا لرواية أخرى تدور على خشبة المسرح. أرى أنه آن للكتابة الإبداعية أن تثور ضد "سايكس بيكو" النقد التي صنفت الأدب إلى جزر منعزلة ومغلقة. 

تعمل في الصحافة الثقافية منذ سنوات.. هل أضافت لمسيرتك الأدبية أم عرقلتها؟

أقول دائمًا إن مهنة الصحافة الثقافية، أو غيرها- إذا أخذها الصحفي على محمل الجد وحرص دومًا على استكمال أدواتها، هي أفضل مهنة للأديب. الصحافي الماهر هو الشخص المسؤول عن المتابعة والرصد والتساؤل والفهم والتدقيق، لتذويب الجوامد وإعادة سبكها في شكل يليق بالتداول. إنها المهارات التي قد يُنتج الأديب عملًا، وربما أكثر من أجل الانتباه إليها وتطويرها وربما ينفق في سبيل امتلاكها أعمالًا أخرى وصولًا إلى مرحلة كافية من النضج. الصحافي المنتبه لأدواته مشروع أديب. 

حصلت على العديد من الجوائز الأدبية ووصلت للقوائم المكرمة في جوائز أخرى.. ماذا تمثل الجائزة لك؟ وأيها الأقرب إلى قلبك ولماذا؟

الأصل في الجائزة أن تكون استمرارًا للتقليد التراثي الجميل: الإجازة، وهي شهادة من مُعلم لتلميذه باجتياز مقومات "المَعلمة". على هذا -شخصيًا- أقيس فرحتي بالجائزة بمعرفة لجنة المحكمين، وبمدى وضوح معايير المؤسسة التي تمنحها. أما الجوائز بشكل عام، فأراها مثل نداءات المسوقين للفت انتباه المتسوقين، كلما أجاد المسوق صياغة نداءه كلما حظي بحضور جماهيري أكبر، ولكن -كما نقول في اللهجة المصرية يبقى "الرك" على البضاعة، وليس على الترويج. 

بنظرة بانورامية.. كيف ترى المشهد الروائي عربيًا؟ ما أبرز الأسماء التي تود التنويه بها؟

للوهلة الأولى يبدو لك أن الرواية، بل والكتابة الأدبية، أصبحت "موضة" عربيًا، وهو رد فعل طبيعي لتحول القراءة إلى "موضة" بفعل تدخل الحكومات لتبييض وجوهها أمام شعوبها، أو للحصول على أرقام جيدة في سباق المؤشرات الدولية من حوكمة وتنافسية ومؤشرات التقدم الاجتماعي وغير ذلك... وهي "موضة" أخرى صنعها المتحكمون في رأس المال الكوني لأهداف بعيدة عن القراءة والكتابة. 

ما يهمنا من ذلك أننا نشهد حالة من النشاط القرائي والكتابي، أصفها بالإيجابية، فكل محاولة للتعبير عن الذات والحال بالكتابة أفضل من الصمت وأفضل بلا شك من الغضب والعزلة، وأفضل بلا أدنى شك من الإرهاب. يبقى فقط أن تقوم وسائل الإعلام بدورها الحقيقي في التعريف بما يدور أو -على الأقل- أن تكف عن الاختزال المخل للصورة، إلى حد تزييفها في أحيان كثيرة.. قبل هذا وبعده، يبقى لكل كاتب ما كتب لأجله.