رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا نعيش النكسة.. حتى نرضى بالوكسة

كان عام 1968، عام الانكسار الفعلي للشعب المصري، خصوصًا بعدما اتضحت وظهرت آثار نكسة 1967، الاقتصادية والاجتماعية والصناعية، على البلاد.. وما عرض في هذا العام من أفلام سينمائية كان أقرب ما يكون إلي عمليات التخدير وإلغاء العقل، ومحاولة للبحث عن سبل جديدة للإلهاء.

فمن ضمن تسعة وثلاثين فيلمًا، لم نجد واحدًا يشير من قريب أو بعيد للنكسة، وكأن الأمر كان مقصودًا، أو أنها كانت أمرًا غير معني به، باستثناء ثلاثة أفلام جادة، لم تلتفت بدورها للأزمة التي عاني منها الكثيرون وقتذاك، وهي «قنديل أم هاشم»، «البوسطجي»، و«المتمردون».. أما فيلم «القضية 68»، الذي حاول فيه صلاح أبو سيف أن يقول، إن هناك شروخًا في جدار الوطن لابد من ترميمها، لم تكن دعوته صريحة وواضحة بدرجة كافية، وأفسدت الرمزية مضمون الفيلم من محتواه، رغم التلميحات والعبارات الموجودة بالفيلم والتي حاولت، وإن على استحياء، أن تطلق إنذار الخطر.. كانت هذه الرمزية في حاجة إلي مترجم لشرحها وتفسيرها، وفي ذلك الوقت لم يكن الكثيرون يملكون رفاهية التحليل والتدقيق، لاسيما أن المشكلة كانت أحوج إلي المباشرة أكثر من الرمز، الذي أفقد الواقع أهميته.

سجلت مذكرات الفنان المبهج الراحل، فؤاد المهندس، ذلك.. تقول المذكرات، إن الرئيس جمال عبدالناصر، أمر بالعمل على خروج الشعب من الصدمة، حتى يتوازن المصريون بسرعة، ولم يجد عبدالناصر أفضل وأهم من الضحك والسخرية للخروج من حالة الحزن العام.. (شنبو في المصيدة) كان واحدًا من أهم المسلسلات الإذاعية بعد الهزيمة، ثم أصبح واحدًا من أشهر الأفلام الكوميدية في تاريخنا.. يؤكد الراحل فؤاد المهندس في مذكراته، أن المسلسل ظهر للنور بناء على اقتراح من الرئيس جمال عبدالناصر نفسه.. وقتها طلب الرجل من الإعلام ألا يظل حزينًا، وأن يبعث  الفرحة والبهجة في نفوس الناس، فقرروا اختيار توقيت الذروة، وهو شهر رمضان، وتم تكليف الساخر الكبير الراحل أحمد رجب باختيار الفكرة، فجاءت فكرة «شنبو فى المصيدة»، وتحمس للتنفيذ نجما الكوميديا الأكثر شهرة ومحبة من الناس وقتها، فؤاد المهندس وشويكار.. أيضًا شهدت السينما حالة ما يمكن تسميته بـ«الانفلات الأخلاقى فى السينما».. مشاهد مبتذلة، إيحاءات جنسية، أفلام ندم عليها كل من شارك فيها فيما بعد.. ولكنها كانت ردة فعل طبيعية للهزيمة.

وكان ظهور المطرب الشعبي أحمد عدوية أيضًا، معادلًا صوتيًا للإحباط والترهل وافتقاد المنطق الذي سيطر على الناس، كرد فعل لهذه النكسة.. وفي السبعينيات، بدأ بالانتشار وتحول إلى ظاهرة فنية غريبة داخل المجتمع.. كان عدوية يبدو كأنه الشبح، يظهر في كل الأفلام ويغني في الأفراح والملاهي الليلية، وتبيع ألبوماته الملايين، ويطاردك صوته في شوارع وحواري مصر، وفي عربات التاكسي والميكروباص، لقد كان عدوية هو ملك السبعينيات وعصر الانفتاح.. ولم يسلم من الهجوم الكاسح من المثقفين وكبار المطربين والملحنين ومنظري الطبقة الوسطى، سخروا منه ومن كلمات أغنياته التي بلا معنى مثل «السح الدح أمبو» و«سلامتها أم حسن»، ولكنها أبدًا لم تكن قبيحة أو محرضة على الفجور، أو منافية لآداب المجتمع وأخلاقياته.. كل ما كان يحدث أن يرفضه البعض في العلن، ويستمعون إليه في الخفاء، بعدما رفضته الإذاعة، ومنع التليفزيون بث أغنياته، بالرغم من خصوصية صوت هذا المطرب الظاهرة، الذي لحن له بعض كبار الملحنين، وأعجب به الموسيقار محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، وأشاد به نجيب محفوظ.

أقول هذا، لأننا شعب لا يعاني الآن من إحباطات انهزام الدولة وترهل المجتمع، بل نحن أمة تبني مصرها الجديدة، على أسس من العلم والكمال والرفاه، تهدم العشوائية، وتبني بديلًا لها، أبراجًا عالية، تليق بالإنسان المصري وتحفظ له كرامته، وحقه في حياة كريمة.. لكن يبدو أن العشوائية لم ينحسر معناها في المباني القديمة والبيوت الخربة والعشش التي كان بعض المصريين يسكنون فيها، وتطلبت تدخلًا حاسمًا من الدولة، قام على هدمها، وبناء الصحيح من التجمعات، الذي تتوافق وقدر المواطن المصري وكرامته وحقه في حياة كرمة.. فالعشوائية في الفكر سبيل انهيار الأمم، والعشوائية في الفن والغناء كفيلة بهدم الإنسان من داخله، لأنها نوع من الإرهاب الذي يهدد المواطن في وجدانه، يشوش تكوينه ويهدد سلامته النفسية.. ولذا فالتعرض لهذا النوع من العشوائية، وأخص بها عشوائية الغناء، واجب، لابد على جهات كثيرة النهوض به.. وأولى هذه الجهات، نقابة المهن الموسيقية والرقابة على المصنفات الفنية.. ليس معنى هذا المصادرة على الفن والمنع على من أراد، لكن للفن أصوله وللمجتمع حقوقه.. وكل من كان أهلًا للإبداع فأهلًا به، عبر القنوات الشرعية، وطبقًا لمكتسبات الأمة وقيمها، وحرصًا ومراعاة لحقوق المواطن، باعتبار أن الاستماع الأصيل للإبداع الجيد، هو حق من حقوق الإنسان، التي يجب على الدولة إتاحتها، ومحاربة ما دونها.

إن القول بأننا دولة مُستهدفة في مكتسباتها، والإنسان أغلى ما فيها، قول حق، لا مراء فيه.. ولعلنا نذكر تلك الشركة العربية التي وقعت عقود احتكار لأروع الأصوات بين مطربينا، وأنتجت لكل منهم أغنية، ثم تركتهم طويلًا بلا عمل.. فلا هي استخدمت أصواتهم في إمتاع الناس بغنائهم، ولا هي فكت أسر عقودها عنهم.. كان الأمر تمهيدًا لأصوات أخرى، من بلدان أخرى، ما كان لها أن تلقى الذيوع والشهرة، ما دامت الأصوات المصرية تصدح بإبداعاتها، فكان لابد من إسكاتها، حتى ولو بالمال الكثير.. هل تذكرون تراثنا السينمائي، وكيف تم الاستحواذ عليه من شركتين، إحداهما عربية صرفة، والثانية مصرية يمولها رجل أعمال عربي؟.. وغيره وغيره.. تلك كانت محاولات لتجريد مصر من قوتها الناعمة!

اليوم، يأتون بحيلة جديدة لإفساد الذوق العام في مصر.. يخرج أحدهم معترضًا على قرار نقابة الموسيقيين بمنع بعض من يُسمون بـ«مطربي المهرجانات»، إلا بعد المثول أمام لجنة الأصوات في النقابة، والحصول على عضويتها.. والأهم من ذلك، حسن اختيار الكلمات التي يتغنون بها، بعد أن شاعت منهم كل رذيلة في الكلمات والإيحاءات، وأصبحوا صورة سيئة للغناء في مصر، بلد أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم ومحمد فوزي، وغيرهم من أساطين الغناء والموسيقى، الذين تغنى بهم العالم العربي من المحيط إلى الخليج.. ويتحدى هذا الشخص، ربما بقوة من ماله، أو سلطان جاهه، بأنه سيجمعهم في منتجع عنده، ويحتفي بهم، ويشجعهم على ما هم فيه، وليذهب كل من يعترض إلى الجحيم!

بل يذهب كل من أراد إفساد الذوق العام، أكثر مما فسد على أيديهم، إلى الجحيم.. فمصر التاريخ والعراقة، والفن الأصيل، لابد أن تحافظ على تاريخها، وأن يكون حاضرها ومستقبلها امتدادًا لهذا التاريخ وتلك العراقة.. ولا يتأتى ذلك إلا بالتصدى للعشوائيات قبل استفحالها.. لقد انتشرت مركبات «التوك توك» واستفحلت عشوائيتها، لأننا أهملناها في مهدها، وكان وراء ذلك بعض المنتفعين من استيرادها وانتشارها.. والآن، نحن أمام عشوائية الغناء، ولابد من مواجهتها، حتى ولو بالضرب على أيدي العابثين، الذين يمكن أن يروا في هذه العشوائية الجديدة، سبيلًا آخرًا لمزيد من الثراء، أكثر مما هم أثرياء!.. أو ربما كانوا أطرافًا لتعطيل بناء مصر الجديدة، الذين لا يريدون لها أن يكون بناؤها مكتملًا، بحس ووجدان راقٍ.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.