رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلمة السر للميليشيات فى العراق

 

حملة التجييش والتحريض التى شنتها الفصائل المسلحة الموالية لإيران والمنضوية ضمن المكون العراقى «الحشد الشعبى»، بحق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى على خلفية الاشتباكات التى وقعت بين القوى الأمنية ومناصرين لها، اعتصموا وتظاهروا فى محيط المنطقة الخضراء يومى الجمعة والسبت الماضيين، ما أدى إلى مقتل أحد قادة تلك الفصائل- يُنظر إليها باعتبارها الشرارة التى أشعلت المشهد ودفعت إلى ارتكاب محاولة الاغتيال، التى ما زالت الأجهزة الأمنية تتوعد مرتكبيها بالوصول إليهم وإلقاء القبض عليهم، وربما سيمثل الإعلان عنهم إزعاجًا واسعًا يتجاوز فعل الوصول للجناة.

فالجميع يعلم أن أصابع السياسة حاضرة فى التخطيط والتنفيذ وقبلًا فى التهديد بالانتقام من الكاظمى نفسه، فكل من ميليشيا «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، اتهمت رئيس الحكومة بتوجيه أوامره للقوات الأمنية بإطلاق الرصاص الحى متوعدة إياه بدفع الثمن.

كان التهديد معلنًا، واعتبرته ونفذته الفصائل كطريقة لإثبات القوة ومقارعة الدولة رأسًا برأس، لهذا لم يقف أحد طويلًا أمام إدانة «قيس الخزعلى»، أمين عام عصائب أهل الحق للهجوم على منزل الكاظمى، ولا محاولته التشويش عندما أرفق إدانته بقوله «إن كان مقصودًا» اتساقًا مع ما حاولت الفصائل فى الساعات الأولى بعد الهجوم من تمرير فرضية، أن المستهدف بالهجوم «هدف أمريكى» ضل طريقه إلى منزل رئيس الوزراء.

أيضًا لم يستسغ أحد سخرية «كتائب حزب الله» التى حاولت التنصل من الهجوم، بادعاء أنه «مفبرك»، حيث لا أحد من الفصائل مستعد لخسارة «طائرة مسيرة» على رئيس حكومة سابق، وقادة الكتائب يعلمون كغيرهم أن الكاظمى صار رمزًا ورقمًا يحمل مشروع الدولة الوطنية العراقية، حتى وإن بقى فى منصبه أو غادره لأى سبب، لهذا ظل الاتهام معلقًا فى رقبة التنظيمين التابعين لـ«الحشد الشعبى» الذى اتهمه الكاظمى صراحة، خاصة وهو المكون السياسى الوحيد الذى هدد بالفوضى اعتراضًا على نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة.

الأجهزة الأمنية العراقية بدورها تعلم أن الطائرات المسيرة تستخدم فى العراق منذ فترة بكثافة لأغراض سياسية واضحة ومعلنة، بدءًا من استهداف المصالح والممثليات الدبلوماسية الأجنبية، وصولًا إلى استهداف متكرر لمطار «أربيل» والقواعد العسكرية العراقية التى تشهد تعاونًا مع القوات الأمريكية. 

حينها كانت تخرج فصائل الحشد لتعلن عن أنها تمثل «المقاومة العراقية»، معللة هذا النشاط وتلك الإمكانات بأنها تأتى سعيًا لإخراج الجيش الأمريكى والقوات الأجنبية من العراق، فى الوقت الذى كانت بغداد تدرك أن هذا المسعى يعد فرضًا للقوة من خارج الدولة، ورغبة فى تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات مع القوى السياسية والدول ذات الحضور داخل العراق.

ولم يقف الحد عند العمل العسكرى المباشر بالطائرات والمفخخات واستخدام القصف الصاروخى من حين لآخر، لكن ما دلل على أن هناك منظومة سياسية متكاملة تعمل فى اتجاه تحقيق تلك الأهداف هو رصد كتائب «الجيوش الإلكترونية» التى تعمل لصالح هذا المشروع، وتكشف عبر خطابها عن الكثير من توجهاته وخططه الرامية لإحداث الشروخ العميقة للنسيج العراقى.

هناك المئات من حسابات وسائل التواصل الاجتماعى، ومنصات الإعلام المحلية متوسطة الحجم، التى تروج على مدار الساعة لمصالح وتوجهات ميليشيات «الحشد الشعبى»، العاملين فيها يتم تأهيلهم وتقديمهم باعتبارهم متخصصين فى الحروب والدفاع والقرصنة الإلكترونية.

عملية تجنيد هؤلاء جرت بدعم كبير من إيران اختراقًا لأوساط الشباب الجامعى العراقى، خاصة من العاطلين عن العمل والبارعين فى استخدام التكنولوجيا من مختلف الطوائف العراقية، وبمبالغ مالية سخية وامتيازات مادية أسهمت فى اتساع تلك الشريحة، وظهور تأثيرها الواسع فى الترهيب والتحريض على العنف والترويج لـ«الحشد الشعبى» وفصائله الشهيرة، باعتباره ممثلًا للمقاومة العراقية ومبررين ومفسرين لكل أفعال استخدام السلاح غير الشرعى، وفق سرديات تحاول أن تناهض ما تقوم به الدولة عبر مؤسساتها الرسمية.

أشهر هذه الكيانات شبكة «صابرين نيوز» التى تعد الواجهة الإعلامية لميليشيا «عصائب أهل الحق»، وهى قناة دعائية على وسائل التواصل الاجتماعى تركز مهامها على العمليات الإعلامية غير الحركية، حيث تقدم الدعم الإعلامى للعمليات العسكرية الحركية وشبه العسكرية، وتبث المحتوى الاجتماعى الذى يهدف إلى إضعاف العراقيين المحليين والأجانب المعارضين لجماعات العمل المسلح.

فى ديسمبر ٢٠٢٠، سلط المرشد الأعلى الإيرانى «على خامنئى» الضوء على القوة الناعمة، باعتبارها الوسيلة الأهم والأقوى تأثيرًا على الولايات المتحدة وحلفائها فى العراق وسوريا على وجه الخصوص، مشيرًا حينها إلى شبكة الإنترنت كونها الساحة الواجب لها أن تشهد عمليات انتقام مباشر لمقتل قاسم سليمانى وأبومهدى المهندس. وعلى ضوء تلك الإشارة، كثف «الحرس الثورى» من نشاطه فى هذا الاتجاه، وبدأ التوسع بصورة كبيرة فى استخدام الفضاء الإلكترونى بمختلف أدواته الحديثة، لذلك شهد تطبيق «تليجرام» على سبيل المثال زخمًا غير مسبوق، من قبل عناصر الحرس وحلفائهم بالداخل العراقى، عبر تشكيل كتائب وسرايا تتلقى تعليمات لإنفاذ خطط منضبطة، تطور من العمل الفردى للشباب الذى جرى استمالته للعمل فى وسائل التواصل الاجتماعى، مما جعل مصطلحًا مثل «ضباط الحرب الناعمة» ينتشر بسرعة وبفخر من المنخرطين فى هذا النشاط، من الموالين لميليشيات الحشد المتنوعة الذين وجدوا فيه نوعًا من العمل الممنهج المشترك، الذى بات يؤتى بثماره كما كان الحال وقت ممارسة الضغوط الإلكترونية على الحكومة العراقية، قبيل إجراء الحوار الاستراتيجى الأمريكى العراقى فيما يخص خروج القوات الأمريكية. 

وقد نجح هؤلاء فى تشكيل قطاع واسع من الرأى العام الشعبى الضاغط فى هذا الاتجاه، رغم الإخفاق الذى كانت تعانى منه تلك الميليشيات على أرض الواقع، بعد بزوغ المشروع الوطنى الذى صار يتشكل رويدًا على يد الكاظمى، بعد أن تمكن من حصد وترتيب صفوف المؤيدين له. وربما أتت كما يشعر العراقيون، اليوم، محاولة اغتياله كى تزيد من شعبية الرجل، الذى انكشف أعداؤه وأعداء مشروعه على هذا النحو الفاضح، خاصة أنهم يمثلون، اليوم، الخاسر الأكبر من الانتخابات التى جاءت لتكشف هى الأخرى، اتجاهات المزاج العراقى العام، بعيدًا عن التحزب المذهبى الذى أرهق العراق سنوات.