رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك الغناء| الكروان صباح فخرى.. جواهرجى الموشحات والقدود وسلطان الطرب

صباح فخرى
صباح فخرى

لا يرحل صباح فخرى أبدًا، ليس فقط لأن المبدعين يبقون بأعمالهم، لكن لأنه من النادرين القادرين على صُنع الحضارة، والحضارة كما تعلمون خالدة.. كل من يتحلى بالوعى سيدرك أن ذلك الصوت الفردوسىّ يشبه تمامًا منحوتات الفراعين فى الصخور ومعابدهم المبنية بالقوة الخارقة وأسرارهم وألغازهم التى لا يزال يحتار فيها الباحثون.. ببساطة هذا صوت لا يمكن له أن يموت.

وبكامل حريتنا، سنقول: إن الموت الذى غيّب جسد صباح فخرى، أمس الثلاثاء، عن عمر ٨٨ عامًا، مجرد حدث عابر لا يؤثر بأى شكل على المسيرة الممتدة والمتنامية لتجربته فى أكوان الغناء والجمال والمحبة، لأنه ليس أسطورة نحكى عنها للصغار، إنما حقيقة ملموسة عاشت وماتت عليها أجيال منذ ولادته فى مايو ١٩٣٣ بمدينة حلب السورية، وبداية نبوغه واكتشاف فطرته الأيقونية فى الغناء، وستستمر أجيال أخرى فى الحياة مع طربه الخرافى.. نحن لا نبالغ أيضًا لو قلنا إنه يمكن للمرء أن يتنفس أغانى «صباح» مثلما يتنفس الهواء تمامًا. 

لم يصنع صباح فخرى أسطورته ببساطة، إنما حققها بإخلاص ودأب وإرادة وصمود الجبال، بداية من الاكتشاف المبكر لموهبته فى الصغر، مرورًا بمراحل التطوير الخلاقة فى ثقافته ووعيه بجماليات الطرب والغناء واحتياجات الموسيقى وإشكاليات المعاصرة والمحافظة على التراث والأصالة وكيفية المزج بين التحديث وترسيخ الهوية.

لقد علّم نفسه ببساطة كيف يخترق قلوب الناس وعقولهم ويصنع منهم بشرًا طيّبى المشاعر هادئى الطباع ومسالمين مثل العصافير.. نحن لا نتحدث عن واقع أفلاطونى، فمع قليل من التحليل، سنكتشف الدور الرئيسى الذى أداه «فخرى» فى إعادة تكييف الأغنية العربية الأصيلة التى كانت تغلب عليها النزعة الصوفية، مع واقع النهضة والحداثة التى بدأت تتجلى أكثر مع منتصف القرن العشرين، وسنرى أنه لم يحمل الراية فقط من المطربين القدماء، إنما أسس لموجات تطوير هائلة فى بنية وجوهر الموسيقى المتداولة أيامها لتكون صالحة لكل زمان ومكان، حتى أصبح جمهور ٢٠٢١ ليس فقط يستسيغها بل يذوب فيها.

وإذا أردنا أن نضرب مثلًا على هذه الجهود، سنرى كيف صنع فخرى من «الموشحات» العتيقة، أيقونات غنائية حديثة تحمل كل جماليات الماضى ونغمًا وموسيقى وأداء يتسق مع الحاضر، عليك فقط أن تدخل على موقع «يوتيوب» وتضغط على «يا شادى الألحان، وأيها الساقى، وأحن شوقًا، أو اسق العطاش»، وغيرها من الأدوار والمقاطع، لترى الأعداد المليونية للمستمعين الذين لا يزال الاستماع لتلك الأعمال هو أكبر متعهم ولذاتهم.

وقد كانت الانطلاقة الأهم لصباح فخرى، هى إعادة إحياء المندثر أو النادر أو المفقود من أعمال أعمدة الطرب فى النصف الأول من القرن العشرين وعلى رأسهم سيد درويش، الذى برع «فخرى» فى دراسة أعماله وتحليلها والاستفادة من التطويرات المذهلة التى حققتها فى بنية الموسيقى والتلحين، فعمل على إعادة أدائها وغنائها بشكل أكثر معاصرة مع الحفاظ على جوهرها الأصلى وتقديمها للجمهور، ولعل من أبرز تلك الأغانى هى طقطوقة «سيبونى يا ناس» لكروان الإسكندرية العظيم.

ومن هذا التراث العظيم، انتقل صباح فخرى بعبقرية فى إعادة تطوير «القدود الحلبية»، وهى عبارة عن أغنيات تم تأليف كلماتها وألحانها على قدر أو «قد» أغنيات قديمة معروفة لدى الجمهور، ومن خلالها استطاع أن يحقق طفرة جمالية ليس لها مثيل فى آليات الطرب، حيث قدم للجمهور ما يحبه من أغانى التراث فى قوالب حداثية أكثر تنوعًا فى الأداء الغنائى واللحنى والإيقاعى، وحققت «القدود» التى غناها- وما زالت- تحقق شهرة بلا حدود، وصارت نموذجًا تتعلم منه أجيال المطربين المختلفة، ومن منا لا يدمن سماع «قل للمليحة، واللؤلؤ المنضود، وقدك المياس» وغيرها؟.

ويمكننا اعتبار أن «الوعى» كان أبرز السمات التى تحلى بها صباح فخرى، فقد كان يدرك جيدًا ما الذى يحتاجه الجمهور، وما الذى تتطلبه ظروف العصر من جماليات وضرورات فنية، فكان حريصًا على تقديم كل الأشكال والتنويعات الطربية بين الكلاسيكى والراقص والشجنى والصوفى، وغيرها، كما شارك بالغناء فى عدة أعمال سينمائية، أبرزها فيلم «الوادى الكبير» مع المطربة الراحلة وردة، وفيلم «الصعاليك» مع دريد لحام ومريم فخرالدين، والعمل التليفزيونى «أسماء الله الحسنى» مع منى واصف وزيناتى قدسية، ومسلسل «نغم الأمس» مع رفيق سبيعى وصباح الجزائرى.

وامتلك مطربنا العظيم قدرة فائقة ليس لها مثيل على الغناء لساعات طويلة على المسرح لدرجة أنه حقق الرقم القياسى فى «جينيس» بعد غنائه على المسرح نحو ١٠ ساعات متواصلة فى حفل بمدينة كاراكاس الفنزويلية عام ١٩٦٨، كما تمتع بموهبة شديدة الخصوصية فى الالتحام والاندماج مع الجماهير التى اعتاد أن يُشركها فى غنائه وانفعالاته على الخشبة، بحيث يعيش المستمعون مع غنائه بأرواحهم قبل آذانهم، مستعينًا بذكاء فطرى يمتلكه وثقافة رشيدة فى التعامل مع المستمع وتلبية احتياجاته الطربية، والأخذ بيده إلى مناطق غنائية غير مطروقة، فيجعله يستسيغها ويفهمها ويعيشها كذلك، وهى ملَكة لم يحظ بها إلا صباح فخرى.

أما أكبر سمة حظى بها صباح فخرى، فكانت قيمة «التواضع الفنى»، إذ كان يدرك أنه لا حدود لإبداعات الفنان، وأنه على كل إنسان أن يؤمن بحتمية التجديد، وألا يضع نفسه داخل إطار معين، لذلك ظل يغنى ويطور من إيقاعاته وألحانه طوال مسيرته، كما تمتع بإخلاص وإيمان لا نظير لهما لفكرة الفن، وكونه مطربًا عليه أن يؤدى ويعمل بقدر المستطاع.

ولو تحدثنا عن التكريمات الدولية التى حصل عليها الكروان فى تاريخه، سنجد أنها يصعب إحصاؤها، لكن أظن أن التكريم الأهم فى رحلته هو استمرار ونمو مهرجان المحبة بينه وبين جماهيره التى عشقت فنه، وهامت مع أغانيه، وأحست عندما استمعت إلى خبر وفاته باللّوعة الحقيقية للمقطع الذى كان يغنيه: «حبيبى على الدنيا إذا مت وحشة.. فيا قمرى قلى متى أنت طالعُ».