رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابتذال النقاش العام

قضايا عديدة تثيرها الضجة التى صاحبت عرض فيلم ريش، من هذه القضايا تدنى مستوى النقاش العام وميل البعض للابتذال، سواء فى الهجوم على الرأى المخالف لهم، أو فى عرض وجهات نظرهم، من القضايا التى يثيرها الفيلم أيضًا استعداد الجميع للحديث عن موضوع لا يلمون بأبعاده جيدًا، وعن فيلم لم يشاهدوه.. ووصل الجهل بالبعض أن يعاير النجم الذى انزعج من الفيلم بمشاركته فى واحد من أهم أفلام السينما المصرية وهو فيلم «الكيت كات»، وقد حاولت أن أمارس عملى كمحقق صحفى لا كناقد، وحللت مجموعة من الأدبيات المحيطة بالفيلم.. وبداية أقول إن الفقر ليس عيبًا، وإن بيانات البنك الدولى تقول إن ٤٥٪ من سكان العالم فقراء منهم ١٠٪ فقراء فقرًا مدقعًا أو لا يجدون «اللضى» على حد التعبير الشهير، ومن سوء الحظ أن موجة كورونا أضافت للفقراء فى العالم مائة مليون شخص، وأن جهود مكافحة الفقر تعرضت لانتكاسة هذا العام بسبب الظرف القاسى، أزيد على هذا فأقول إن نسبة الفقر فى أغنى دول الشرق الأوسط تزيد على ٥٠٪، وهو معدل يفوق معدل الفقر فى مصر بمراحل، والمعنى أن الفقر ليس عيبًا، وأنه لا يسىء إلى صورة مصر فى العالم وإلا لأساء لصورة دول كثيرة جدًا، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن.

وإذا انتقلنا من موضوع الفقر إلى موضوع مذهب الفيلم السينمائى، ولماذا أثار الانزعاج.. فأولًا من حق أى أحد أن ينزعج من أى عمل فنى لأى سبب يخصه، ومن حقه أن يعبر عن رأيه، وما هو غير طبيعى أن يتعرض للتشهير بشكل جماعى، وأن يجد البعض فى الإساءة له وسيلة مجانية ومأمونة للنضال، وأن ينخرط بعض المحسوبين على الدولة فى إهانة الرجل والتشهير به لسبب أو لآخر.. وكان من علامات تدنى النقاش وانخفاض المستوى الثقافى لمعظم المشاركين أن البعض ذكر أفلامًا لقمم الواقعية المصرية باعتبارها مساوية لفيلم ريش الذى لم يشاهده أحد أساسًا، والحقيقة أن كبار مخرجى الواقعية المصرية أحبوا الفقراء، ورأوا فى عوالمهم جمالًا داخليًا، وثراءً كبيرًا، وبالتالى لم يقدموا الواقع بشكل قبيح ولا سوداوى، وأذكر أن المخرج الكبير داود عبدالسيد قال لى إنه قبل تصوير فيلمه «سارق الفرح» تراجع عن التصوير فى حى عشوائى حقيقى، وقرر بناء ديكور سينمائى، لأن الواقع سيفسد الرسالة الجمالية للفيلم، نفس الأمر مع محمد خان الذى تبدو شوارع القاهرة ومبانيها معه أجمل مما نراه فى الواقع، يبدو أبطاله مقاتلين نبلاء، رغم أنه أكثر المخرجين المصريين تأثرًا بالواقعية الإيطالية، وفى فيلم «الكيت كات» مثلًا ترى بطلًا فقيرًا محبًا للحياة، رافضًا للاستسلام لظروفه، يغنى، ويحاول أن يستعيد علاقة غرامية مع صديقة طفولته، ويتصدى لمحاولة استغلاله والاستيلاء على منزله، شخصية إنسانية كبيرة، لا يسحقها الفقر، ولا تستسلم له، رغم أنه فقير للغاية، ينطبق الأمر نفسه على المنازل، والأثاث، والملابس، كلها فقيرة، لكنها نظيفة وآدمية، ما هو الوضع فى فيلم «ريش» إذن؟ إنه ليس فيلمًا واقعيًا، بقدر ما ينتمى إلى «الديستوبيا» وفن نهاية العالم.. إن هذا ليس كلامى ولكنه كلام ناقد أحب الفيلم هو الزميل عصام زكريا الذى يشيد بالفيلم، أول مشاهد الفيلم لرجل يحترق بين جدران مصنع قديم.. لا علاقة له بالأحداث، ولكنه مشهد مؤسس لعالم الفيلم، الشبيه بقصص نهاية العالم، أو قصص الديستوبيا أو المدينة غير الفاضلة، أو أسلوب «الجروستك» الذى يرسم الواقع بالإفراط فى تشويهه! هذا ناقد معجب بالفيلم ويرى أنه يفرط فى تشويه الواقع، فلماذا نلوم على من انزعج من تشويه الفيلم للواقع؟ إحدى مشاكل تلقى الفيلم أيضًا أن ممثليه ليسوا ممثلين محترفين، وبالتالى هو يبدو للمتلقى أقرب لفيلم تسجيلى، وبالتالى ينزعج أكثر من كم السوداوية التى توضع على لسان مصريين عاديين وهو ما يعبر عنه مقال الزميل قائلًا «لا يوجد ممثلون محترفون هنا، ولكنهم أناس من الواقع، يتحدثون بلهجة المصريين البسطاء، لا يوجد ممثلون ولا تمثيل، ولكنهم أناس حقيقيون، يعيشون حياتهم على الشاشة» أما الأماكن التى يدور فيها الفيلم فهى «تعبر تمامًا عن رؤية المخرج للواقع، مبانٍ قبيحة مهدمة، وبيوت شبيهة بالخرائب!، وحتى البيوت الأكثر ثراءً قبيحة وغارقة فى دماء الحيوانات والذوق الرخيص».. انتهى الاقتباس من مقال الزميل عصام زكريا، وأقول إن ما يقبله شخص قد لا يقبله شخص آخر، وإنه ليس كل الناس من عشاق السوداوية ونبوءات خراب العالم، وإن كثيرًا من الكتاب المستقلين والمعارضين أيضًا لم يحبوا الفيلم، ورأوه فيلمًا سيئًا، وبعضهم كتب هذا وبعضهم خاف أن يكتبه، لسبب أو لآخر، وما أريد أن أقوله إن كراهية الجمهور لفيلم ليست جريمة، وإن الدفاع عن فيلم لم تره ليس عقلًا، وإن الجميع أحرار فى التعبير عن حبهم لأوطانهم دون مزايدات أو ابتذال أو اتهام لصاحب الرأى.. كفى تصفية للحسابات باسم الدفاع عن الحرية.