رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق مجهولة.. نصر أكتوبر فى شعر العامية

على الرغم من أن شعر العامية أسرع انتشارًا وأكثر جماهيرية، فإنه قد ظلم ظلمًا كبيرًا عند الحديث عن الإبداعات الشعرية الخاصة بنصر أكتوبر، لأن الحديث كان يتوجه فورًا إلى الأغنية الأكثر ذيوعًا وانتشارًا منه. ولهذا لا تتعجب عندما تتعرف فى هذا المقال على قصائد رائعة لشعراء كبار لم تسمع عنها من قبل.

فما اشتهر لوالد الشعراء فؤاد حداد هو أغنية: «مصر دايما مصر» فقط، على الرغم من كتابته عدة قصائد عن نصر أكتوبر فى ديوانه: «كلمة مصر» الصادر عام ١٩٧٥، وهو الديوان الوحيد الذى نشره حداد طوال فترة السبعينيات كلها.

وقد صدَّر حداد ديوانه بإهداء يوضح فيه مبادئ الدستور الوطنى الجديد التى كشفتها شموس النصر، وأبرزها: أن الجيش والشعب واحد، وأن توفير الخبز للمواطن البسيط لا يقل أهمية عن النصر العسكرى، وأن الشعر أيضًا قد انتصر فى السادس من أكتوبر، بما كتبه الشعراء من قصائد مقاومة قبل المعركة.

حيث يقول: «إلى ١٠ رمضان ٦ أكتوبر، شوق أيام وأجيال كثيرة، والحقيقة الخالدة كالشمس التى لا تغيب، وكأنما تسطع وتضىء فجأة. فعرفنا أن مصر الحق، مادام فى الدنيا نهار وشجر. وعرفنا أن الله كرم الإنسان، بأن القلب واللسان واحد. وأن الرصاصة التى تصيب العدو، والخبز لأبنائنا واحد. وأن التاريخ والأسطورة واحد، والجيش والشعب واحد. واعتزازنا بالقائد وبالوطن، والعمل الصالح والكلمة الطيبة، ودعوة الأم وخطوة الجندى، وانتصار الشعر، يوم ٦ أكتوبر ١٠ رمضان».

والجزء الأول من هذا الديوان يحمل عنوان: «مصر بالغنوة»، وقد ضم، بالإضافة إلى مجموعة من أغنيات حداد الشهيرة، أغنيتين عن نصر أكتوبر، لم يحالفهما الحظ فى التلحين والغناء والشهرة بالطبع، الأولى هى: «لفوق ولقدام»، والتى يقول فى مطلعها:

أنا أبنى لفوق أمشى لقدام

يوم ستة منور فى الأيام

أنا واقف ع الشط التانى

السما والأرض فى أحضانى

والجسر اللى بنيته بنانى

أما الأخرى فهى: «ضى جبينها»، والتى يقول فيها:

وعيون على كل الناس بتدور

ومنارة ما بتبطلش النور

والشعب مع الجيش المنصور

ع الجسر العالى محاوطينها

ويضم هذا الديوان أيضًا قصيدتين طويلتين عن أكتوبر، الأولى عنوانها: «حق الجهاد»، والتى يرى فيها الشاعر أن الهوية المصرية قد تبلورت فى تلك اللحظة الفارقة: «وكأن كل الناس، وكل العصور.. ما اتأخرتشى دقيقة يوم العبور»، لهذا كانت حرية الوطن أهم من حياة أفراده، وكانت «الحرب أعدل من رغيف اليتامى»:

أنا كل يوم منصور فى نفس الميعاد

وكل يوم أبدأ بحق الجهاد

وكل يوم أختم بالاستشهاد

وكل يوم أعطش وألاقى السيل

سينا الشرف والملحمة والنيل

والحرب أعدل من رغيف اليتامى

لما الحياة ترجع لنا بالكرامة

والثانية عنوانها: «القمر ع القنطرة الشرقية»، وإذا كان الكثير من الشعراء قد تحدثوا عن رفع العلم فى هذا السياق، فإن فؤاد حداد يتحدث عن رفع السماء نفسها، وكأن هذا الأفق اللانهائى الذى نراه لا يطاول رايتنا المنتصرة، حيث يقول:

رفعوا السما وحطوا العلم ع الصارى

والشمس قالت اشهدوا لأنصارى

يا أهل النسيم بيفوت على النخلتين

يا أهل البيوت بين الجناين عصارى

المقدمين بيشقوا صهد اللهب

اختاروا حب الرمل قبل الدهب

فى الدنيا ثروة، من الولاد المصاروة

ولقد صنع ضياع الإعراب من العامية نوعًا من التورية الجمالية فى قوله: «اختاروا حب الرمل قبل الذهب»، فإذا قرأت كلمة «حب» بضم الحاء، فأنت بصدد سياق معنوى يؤكد أن حب تراب الوطن أكبر من حب أثمن الأشياء فى الكون. وإذا قرأتها بفتح الحاء، فأنت بصدد سياق مادى تكون فيه حبة الرمل فى سيناء التى ارتوت بدماء الشهداء أغلى كثيرًا من وزنها ذهبًا.

وبالإضافة لكل ما سبق، فقد جمع حداد فى ديوانه ست عشرة قصيدة من قصائد المسحراتى تحت عنوان مستقل، هو «مصر.. وطن رمضان»، وكلها قصائد عن نصر أكتوبر تنبض بالوطنية وتموج بالشعرية، حيث يقول فى إحداها:

الله أكبر يا هتاف الجيش

أجمل علم فى الدنيا صقر قريش

وأجمل الخيالة جيش منصور

أجمل ما فى الدنيا

أكتوبر اللى انتقم ليونيه

وقد كتب حداد هذه القصائد بعد ١٠ رمضان عام ١٩٧٣، وتم بثها بالإذاعة فى حينه، لكن طبيعتها الخاصة اليومية والمرتبطة بشهر رمضان، جعلتها لا تذاع مرة أخرى كما يحدث مع الأغانى، فلم تنل ما يليق بها من الشهرة والذيوع أيضًا.

أما الشاعر صلاح جاهين الذى كتب أغانى عديدة رائعة عن الحرب والمقاومة، فلم يكتب ولو أغنية واحدة عن نصر أكتوبر، بل كتب عدة قصائد أشهرها قصيدة «أكتوبر»، التى يدعو فيها المصريين، من واقع خبرته السياسية المرة التى أصابته بالاكتئاب بعد هزيمة ١٩٦٧، إلى عدم الإسراف فى التباهى بالنصر حرصًا على عدم الوقوع فى شرك الغرور القاتل مرة أخرى، بل دفعهم دفعًا إلى تجاوزه وأخذ خطوات أخرى للأمام، حيث يقول فى نهايتها:

وحياة ليالى سود صبرناها

واتبدلت بالشمس وضحاها

نكبح جماح الزهو، مع إنه

من حقنا، ونحمى النفوس منه

ولو «العبور» سألونا يوم عنه

نقول: مجرد خطوة خدناها

أما قصائد صلاح جاهين الأربع الأخرى عن حرب أكتوبر، فهى: قصيدة «العلم»، والتى يناديه فيها قائلًا: «يا بؤرة الوطنية والتوحيد»، ويؤكد أنه:

ولو فضل فى الدنيا مصرى وحيد

راح يرفعك يا علم يا مصرى أكيد

وقصيدة «الحرب مش نزهة»، التى يقارن فيها بين ما حدث فى يونيو، حيث لم يكن هناك مجال لحرب فعلية، وبين ما حدث فى أكتوبر من مواجهة عسكرية حقيقية:

ده كان فى يونية إللى ما شافش قتال

ودخلنا فى أكتوبر رجال لرجال

وقصيدة «نهاية الأسطورة» التى يفند فيها أسطورتين داومت إسرائيل على ترديدهما وكأنهما حقيقة دامغة، لمحاولة تحطيم روحنا المعنوية، وهما: أن إسرائيل شعب الله المختار، وأن الجيش الإسرائيلى جيش لا يقهر، حيث يقول فيها:

بنى إسرائيل العقل منهم تاه

فى متاهة الأساطير يا ولداه

والحقد ضيع رشدهم وطفاه

خلطوا ما بين البطش والمعاناه

واحتاروا: همه غلابه ولا عتاه

شعب اتلعن م الرب، واللا حاباه

والرب رب الكون، واللا أداه

مخصوص لهم؟ سبحانه فى علياه!

الرد جالهم يعدل الموازين

على إيد جنود من مصر، بنى آدمين

لا مختارين م المولى ولا ملاعين

بس الوطن لابد يحموا حماه

أما القصيدة الخامسة والأخيرة فهى قصيدة «أرض مصرية» التى يتحدث فيها عن أرض سيناء الحبيبة، ويستخدم فى مطلعها مصطلح «التراكيب الجيلوجية»، وهو مصطلح علمى جاف يصعب استخدامه فى قصيدة فصحى، لكن عبقرية جاهين مكنته من وضعه فى قصيدة عامية، دون أن يمثل نتوءًا لغويًا أو دلاليًا، بل صار مفهومًا واضحًا للعامة، من خلال صورة شعرية جميلة ومدهشة، حيث يقول:

ملس بخدك ع التراكيب الجلوجية

والمس بيدك كرمشات الزمان

أحجار بهيئة ميّة مغلية

معمولة هى، واللا عفوية؟

من عهد آدم، ولا عام الطوفان؟

أى إبداع أكثر من هذا يمكن أن يصف به شاعر تضاريس سيناء الحبيبة، قبل الانتقال إلى تحويلها من حجارة جامدة إلى قلب ينبض بالحياة، حيث يقول:

سينا..

نبض وسرى فيكى يا دى الزلطة

وح يسرى دايمًا.. بس تشبعى دم

شكلك كمثل القلب ع الخارطة

إنشالله دايمًا يبقى خالى الهم

أما الشاعر أحمد فؤاد نجم، فبالإضافة إلى أغنيته الشهيرة «دولا مين ودولا مين»، فقد كتب قصيدتين عن نصر أكتوبر، الأولى طويلة بعنوان: «ضُليلة فوق راس الشهيد»، ومطلعها مشهور جدًا، لما فيه من روح الفكاهة الشعبية الساخرة، التى ورثها نجم كلها وحده عن بيرم التونسى.

فهو ينحت فى أول كلمة مصطلحًا فكاهيًا «النكتة لوجيا» ساخرًا من كل الدراسات العلمية التى كانت تؤكد التفوق العسكرى الإسرائيلى، ويضع فى مقابلها «الحداقة» المصرية التى استطاعت أن تنتصر عليها، ولا يفوته التقفية على الطائرات الفانتوم التى ادعو أنها لا تقهر «كل عام فانتوم بخير»، واصفًا هذا الانتصار العسكرى على الخصم بمرادفه الشعبى «تلبيس العمة»، ومستخدمًا الألفاظ الإنجليزية «جود، باد» فى تقرير نتيجة المعركة، حتى يفهم العالم ما يقول، بما يتوافق مع صيغة الخبر الصحفى المرسل لوكالات الأنباء التى اختارها. وقد استطاع أن يسجل فى نهاية المقطع تاريخ المعركة داخل المتن الشعرى للقصيدة بوزنها وقافيتها ببراعة فائقة، حتى لا يسقط بالتقادم بوصفه معلومة نثرية إضافية، حيث يقول:

بالنكتة لوجيا

والحداقة

والتكنولوجيا

والتاريخ

هجم الزناتى على الخواجة

ولبسه العمة بصاروخ

«جود» عليوة

«باد» مائير

كل عام فانتوم بخير

«وكلات الأنباء والصحفيين

٦ أكتوبر ٧٣»

أما القصيدة الثانية فعنوانها: «منشور وطنى علنى رقم ١»، وهو يبدأها بطلب مصر من أبنائها مواصلة الحرب من أجل تحرير سيناء، وسؤال عن مدى استعدادهم لذلك. ويختمها بإجابة تؤكد وعدهم لها بتحقيق النصر، لأن مصر «جوة العيون، وحبها فوق الظنون»، حيث يقول فى مطلعها:

أيها المواطنون

أيها المواطنات

مصر من طول السكات

بتناديكم

تسمعون؟

عطرونى بالبارود

كحلونى باللمون

عايز أغمض

أو أفتح

يرجع الشوف للعيون

وألقى سينا جوا حضنى

والجناين والزتون

يا حبايبى

يا جنودى

ما عساكم تفعلون؟

أما الشاعر فؤاد قاعود فيضم ديوانه «قلق الروح» قصيدتين عن حرب أكتوبر، الأولى بعنوان «٦ أكتوبر»، حيث تبدأ القصيدة بنهوض الشاعر من نومه ضجرًا ظنًا منه أنه يوم عادى كباقى الأيام المكررة، حتى زف له المذياع بيان العبور وهو غير مصدق لما يحدث:

دا علم ولا وهم بأحلم بيه

رفع الغضب أياديه

ومسحنا عار الزمان

فى لحظة تسوى الأبد

تمنتها بعمرى، وأنا الكسبان

أما القصيدة الثانية فتحمل عنوان «من المقاتل قيس، للمناضلة ليلى»، وهى تتكون من خمس رسائل يرسلها الجندى المقاتل لحبيبته، حيث يقول فى رسالته الأولى التى تعبر عن شوقه إليها من جهة، وعن طول فترة غيابه عنها على خط النار من جهة أخرى:

معايا صورة قديمة فى المحفظة

لكنى أرجوكى

تتصورى دلوقت

وتبعتى واحدة فى ظرف مسوجر

أكيد جمالك زاد

من بعد أكتوبر

وعلى الرغم من كل هذا الشوق، فإن حديث الحب لا يطغى على حديث الحرب، ونداء الواجب يغلب لدى الجندى على نداء العاطفة، حيث يقول فى رسالته الثالثة:

ولو قابلتك وأنت خلف الخط

بتضمدى الجرحى

شدى الضمادة فوق دراعى بحزم

واتركينى أعود

ولا تظهريش اللى بيننا

وسط الجنود

فالمرأة شريكة فى الجهاد، وعليها أن تقوم بدورها الوطنى دون أن تغلبها مشاعرها الشخصية. لكن هذا كله لم يمنع الشاعر فى رسالته الأخيرة، من أن يتفق مع حبيبته على موعد للقاء فى خميس ما بعد النصر، فيحار القارئ هل هى المرأة الأنثى، أم المرأة الوطن؟

ومازال ميعادنا اللى كان

قايم فى نفس اليوم ونفس المكان

ساعة الأصيل ع النيل فى أول خميس

راح يجى بعد النصر

عشتى وعاشت مصر

أما الشاعر عبدالرحمن الأبنودى أكثر شعراء العامية كتابة لشحن الروح المعنوية للشعب والجنود بعد هزيمة يونيو، فلم يكتب قصيدة واحدة عن نصر أكتوبر. وقد كتب أغنية واحدة فقط هى: «صباح الخير يا سينا»، بطلب من عبدالحليم حافظ فى مكالمة هاتفية له بلندن حيث كان يقيم.

وعلى الرغم من إجماع المواقع الإلكترونية على أن للأبنودى قصيدة عن حرب أكتوبر يقول فيها:

ما تكتبوش اسمى على قبرى

ولا تنصبوش شاهد

ولا تغرسوش صبار

وما تنظموش القصايد

ولا تلعبوش معايا لعبة الأشعار

فهذا الأمر غير صحيح، فعنوان هذه القصيدة هو «المتهم»، وهى منشورة ضمن ديوان: «المشروع والممنوع»، وقد أرخها الأبنودى بتاريخ «مارس ١٩٨٢»، وليس لها علاقة بنصر أكتوبر من قريب أو بعيد.

والواقع أن الأبنودى كان يقيم بلندن وقت المعركة، وكان يرى الأحداث من منظور إعلام مختلف، كما أنه كان ضد بعض السياسات التى اتخذت بعد العبور.

والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة للشاعر سيد حجاب، فلا توجد فى دواوينه كلها قصيدة واحدة عن نصر أكتوبر. وأغنيته الوحيدة التى يظن أنها من أغانى أكتوبر: «الباقى هو الشعب» التى غنتها عفاف راضى بعد النصر من ألحان كمال الطويل، هى أغنية قديمة رفضها الأزهر سابقًا، لكنه سمح بإذاعتها بعد العبور.

على أن ذلك الموقف لم يظل بهذه الحدة، حيث كتب الأبنودى وسيد حجاب كلمات أوبريت الاحتفال بنصر أكتوبر، الأول عام ١٩٩٨ وهو أوبريت «كفاح طيبة» عن نص نجيب محفوظ وألحان جمال سلامة، والثانى عام ٢٠٠١ وهو أوبريت «مصر فى مفترق الطرق» ألحان عمار الشريعى.