رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مديح مبدعى السبعينيات (2): الروائيون حاكموا التاريخ الذى أدى إلى النكسة

شهدت فترة السبعينيات طفرة سردية مغايرة على مستوى الكتابة والرؤية، نظرًا للتحولات السياسية والاجتماعية التى شهدتها تلك الفترة، فروائيو هذا الجيل ممن تشكل وعيهم الفنى والجمالى بين حرب ١٩٦٧ ومعاهدة السلام مع إسرائيل ١٩٧٩ كتبوا أعمالًا تعمل على مساءلة الذات والآخر وإدانة المسكوت عنه فى التاريخ، ورغم اختلاف الرؤى بين أبناء هذا الجيل فإن هناك قواسم مشتركة هى: طبيعة الرؤية للعالم التى تنهض على إدانة الواقع، وكشف زيفه وإعادة تشكيل مفرداته، وفق رؤية حداثية، وقد ظهر ذلك جليًا فى أعمال أبناء هذا الجيل مثل: إبراهيم عبدالمجيد ويوسف أبورية ومحمد المنسى قنديل ورضا البهات وفتحى إمبابى ومحمود الوردانى وهالة البدرى ونعمات البحيرى وابتهال سالم وسلوى بكر.

أما إبراهيم عبدالمجيد فولد فى ٢ ديسمبر ١٩٤٦ بمدينة الإسكندرية وحصل على ليسانس الفلسفة كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام ١٩٧٣، وفى نفس العام رحل إلى القاهرة ليعمل ويقيم فيها، وقد أصدر، عبر ما يقرب من خمسين عامًا، مجموعة من الروايات منها: «صياد اليمام» و«ليلة العشق والدم» و«البلدة الأخرى» و«بيت الياسمين» و«لا أحد ينام فى الإسكندرية» و«طيور العنبر» و«الإسكندرية فى غيمة» و«فى كل أسبوع يوم جمعة» وغيرها.. كما أصدر عدة مجموعات قصصية منها «فضاءات» و«سفن قديمة» و«إغلاق النوافذ».

وقد حصل «عبدالمجيد» على جوائز كثيرة منها: «جائزة نجيب محفوظ فى الرواية» من الجامعة الأمريكية عن روايته «البلدة الأخرى» عام ١٩٩٦، و«جائزة معرض القاهرة الدولى للكتاب لأحسن رواية» عام ١٩٩٦ عن رواية «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، و«جائزة الدولة للتفوق فى الآداب» عام ٢٠٠٤، و«جائزة الدولة التقديرية فى الآداب» عام ٢٠٠٧.

ويمثل المكان محورًا أساسيًا فى روايات إبراهيم عبدالمجيد خاصة مدينة الإسكندرية التى يقول عنها: الإسكندرية منحتنى كل شىء، الحب والكتابة والونس، فقد ولدت فى حى كرموز، وهو أحد أشهر الأحياء الشعبية وأكبرها فى مدينة الإسكندرية، وهو حى أصحاب المهن المختلفة، ويرتبط بأحياء صغيرة مثل غيط العنب وكفرعشرى الذى ولد فيه عبدالله النديم، خطيب الثورة العرابية.

أما سلوى بكر فقد ولدت فى القاهرة عام ١٩٤٩ بحى المطرية، حصلت على بكالوريوس التجارة بجامعة عين شمس سنة ١٩٧٢، وانضمت أثناء دراستها للحركة الطلابية، وبعد تخرجها عملت مفتشة تموين، وظلت فى عملها هذا حتى عام ١٩٨٠ وأثناء ذلك حصلت على ليسانس «النقد المسرحى»، وأقامت فترة فى قبرص مع زوجها الفنان «منير الشعرانى»، وكانت تكتب النقد السينمائى والمسرحى فى عدد من المجلات العربية إلى أن عادت إلى مصر مرة أخرى عام ١٩٨٦، وتعرضت سلوى بكر للاعتقال أثناء إضراب عمال الحديد والصلب عام ١٩٨٩، وأتاحت لها تجربة الاعتقال فرصة الاختلاط بالسجينات الجنائيات فى «سجن القناطر»، وكانت هى السجينة السياسية الوحيدة بينهن، وقد حوّلت هذه التجربة إلى كتابة أدبية من خلال روايتها «العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء» التى تدور أحداثها فى عالم سجن النساء، وعلاقته بوضع المرأة فى المجتمع.

وأما يوسف أبورية فولد بمحافظة الشرقية عام ١٩٥٥، وحصل على شهادته الجامعية فى الإعلام من جامعة القاهرة، وعمل فى مركز البحوث مديرًا عامًا، وكانت أمينًا عامًا لصندوق رابطة القلم المصرية حتى وفاته عام ٢٠٠٩. 

دخل يوسف أبورية إلى الأدب من باب السياسة شأن معظم جيل الستينيات وبعض جيل السبعينيات فى مرحلة لم يكن أمام الأديب مفر من الانخراط فيها، فالصراع الشيوعى الرأسمالى لم يكن قد حُسم بعد، والمشروع القومى ليس بعيد المنال، والثورة التى اختبرت رسميًا فى ٦٧ تضمد جراحها وتيار أصولى يعاود البزوغ، كانت المرحلة محتدمة ولم يكن أمام الكاتب مفر من الانحياز، حتى وإن أدرك أنه كروائى أكثر حرية من أن يسعه قالب أو تستحوذ عليه أيديولوجيا، وأنه يجب أن يكون عزوفًا عن إطلاق الأحكام أو تقييم الأفكار والظواهر، إنما يعرض لها ثم يتوارى هناك فى الخلفية حيث لا يراه أحد، محتفظًا بهذه المسافة بين الفن والأيديولوجى.

وتعد تجربة الروائى فتحى إمبابى من أهم تجارب الكتابة الروائية فى جيل السبعينيات، حيث الكتابة مبكرًا بعد تخرجه فى كلية الهندسة عام ١٩٧٤، ومشاركته فى الحركة الطلابية التى كان أحد قادتها، وبعد تخرجه سافر للعمل فى ليبيا والعراق والمجر، وفى نفس الوقت بدأ رحلة قراءة موسعة فى التاريخ ليعرف سر الشخصية المصرية، وعن ذلك يقول: «سؤال الهوية هو القضية الكبرى التى تؤرقنى وتشغلنى طول الوقت، فقبل ٦٧ كانت لدينا معرفة بهويتنا ودورنا فى العالم، ولكن مع الهزيمة أصبحت الشخصية المصرية تميل أكثر إلى عدم الوضوح، وكنت فى كتاباتى أبحث عن ماهية ما وصل إليه».

وجاءت روايته «نهر السماء» لتستلهم العقود الأخيرة من عمر دولة المماليك، والرواية فيها استكشاف لفكرة الجمود الثقافى والسياسى والاجتماعى لدى الجماعات البشرية من خلال قراءة الماضى برؤية معاصرة، أما روايته «مراعى القتل» فتعد من أهم الروايات التى تعرضت لملحمة حرب الاستنزاف وتضحيات المصريين الهائلة فى سبيل بناء حائط الصواريخ، وقد حصلت هذه الرواية على جائزة الدولة التشجيعية عام ١٩٩٥.

أما نعمات البحيرى فقد ولدت عام ١٩٥٣ وتوفيت عام ٢٠٠٨، ورغم أنها ولدت فى حى العباسية بالقاهرة، إلا أن طفولتها ونشأتها كانت فى مدينة «شبين القناطر» تخرجت فى كلية التجارة عام ١٩٧٦، عملت فى شركة للكهرباء كإخصائية للشئون الإدارية حتى مرضت بفعل عوامل قهر الوظيفة، وعوامل أخرى فى شهر أكتوبر ٢٠٠٤، لكنها ظلت تقاوم مرض السرطان اللعين بالكتابة، فقد كانت الكتابة بالنسبة لها «بهجة مدفوعة الثمن من الوحدة والوحشة وتأجيل الأحلام» كانت تقول دائمًا: الكتابة هى رؤية أخرى لهواء نظيف، هى خط الدفاع الأخير فى مقاومة الموت والانزواء واليأس والإحباط، هى صرخات من القلب الموجوع بسياط الرغبة فى تغيير وجه وروح وعقل العالم عبر تجديد الأحلام وكسر القيود وتبديد الأوهام، اهتمت «نعمات» فى أعمالها الروائية والقصصية مثل: «أشجار قليلة عند المنحنى» و«شاى القمر» و«حكايات المرأة الوحيدة» و«ارتحالات اللؤلؤ».. وغيرها، بالبُعد الإنسانى فقد كانت مشغولة بقضية العدل الاجتماعى وقضية الحرية وحقوق المرأة.

أما محمد المنسى قنديل فقد تخرج فى كلية الطب جامعة المنصورة عام ١٩٧٥ وعمل بعد تخرجه طبيبًا فى بعض قرى محافظة المنيا، ما زاد من خبراته بالقرية المصرية، وقد ظهر تأثير ذلك على مجموعاته القصصية الأولى مثل «احتضار قط عجوز» و«بيع نفس بشرية» و«مَن قتل مريم الصافى؟». كما ظهر تأثير مدينة المحلة واضحًا على كثير من قصص تلك المجموعات حيث عالم مصانع الغزل والنسيج والعمال بها.

بدأ المنسى تجربته الأدبية بإعادة كتابة التراث وكان دافعه إلى ذلك هو الهزيمة المريرة فى عام ١٩٦٧.

وقد فاز وهو طالب فى كلية طب المنصورة عام ١٩٧٠ بالجائزة الأولى فى القصة من «نادى القصة» عن نصه «أغنية المشرحة الخالية»، التى ضمها بعد ذلك بسنوات إلى مجموعته القصصية «من قتل مريم الصافى؟»، الصادرة عام ١٩٨٨ والحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية.

وخلال مسيرته الأدبية عكف «المنسى» على البحث عن جذور الشخصية المصرية والعربية، وكان يشغله سؤال جوهرى هو: «هل هى شخصية قابلة للتقدم والتطور أم أنها محكومة بمصير الهزيمة؟».

وفى السينما.. خان والطيب وبشارة غيروا مسار السينما المصرية

جاءت حقبة السبعينيات فى السينما المصرية مليئة بأنماط تجريبية تؤسس لذائقة فنية مغايرة قائمة على ما يمكن أن نسميه بـ«تأصيل الهوية المصرية» داخل الفيلم، وربما كانت البداية الحقيقية لهذا الجيل السينمائى فى عام ١٩٦٨– أى بعد هزيمة يونيو بعام واحد، حيث أسست مجموعة من السينمائيين «جماعة السينما الجديدة»، وأصدرت بيانًا سينمائيًا حمل دعوة إلى النهوض بالسينما المصرية، مؤكدة أن هذه النهضة لن تقوم إلا من خلال التعبير الحقيقى عن قضايا الواقع المصرى وهموم الناس، وأن تنحاز السينما الجديدة إلى جماليات فنية وتقنية خاصة، وقد نجحت الجماعة فى إنتاج فيلمين روائيين طويلين، لكنها بعد ذلك توقفت عن الإنتاج بسبب صعوبة الحصول على دعم مالى.

وهكذا خلت الساحة لمنتجى القطاع الخاص التجارى، فكان لابد لمخرجى جماعة السينما الجديدة من المصالحة معهم، كى يتمكنوا من العمل وتحقيق الأحلام، بعد أن كانوا قد أعلنوا الحرب السينمائية ضدهم، وبهذا انتهى العمل الجماعى الهادف إلى إيجاد حلول جماعية من أجل تطوير السينما المصرية ككل، وحل محله جهد فردى، ونتج عن هذه المصالحة خلال العقود التالية بعض الأفلام المصرية المميزة التى تنسجم مع أهداف الجماعة، ولكنها لا تحقق حلم تطوير السينما المصرية، فى حين أخذت صناعة السينما المصرية فى التردى وتقلص حجم الإنتاج السنوى من الأفلام الروائية الطويلة بنسبة كبيرة. 

ومع ذلك فقد ظهر جيل من السينمائيين حملوا رؤية مغايرة مختلفة عن السائد، ربما تأخر ظهورهم طويلًا نظرًا لعملهم، إما مخرجين تسجيليين أو مساعدى إخراج لسنوات طويلة، فلم تظهر أفلامهم إلا فى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أمثال محمد خان وعلى بدر خان وداود عبدالسيد وخيرى بشارة وعاطف الطيب، الذين انحازوا إلى الواقع انحيازًا كاملًا معبرين عن الشارع المصرى وتحولاته الاجتماعية العاصفة.

وعلى حد تعبير الناقد سامى السلامونى فإنه بدءًا من السبعينيات بدا كما لو كانت التحولات الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة التى طرأت على المجتمع المصرى ومن القمة إلى القاع- قد فرضت نفسها بقوة على الجميع، وأحدثت تأثيرات أفدح من أن تتجاهلها السينما المصرية مهما كان هروبها من الواقع وغرقها فى الغيبوبة، وجرها لجمهورها نفسه للغرق معها، لأنه حتى على مستوى هذا الجمهور العادى جدًا، ومهما كان وعيه بالواقع أو بالسينما معًا، كانت هذه التحولات من أقصى اليسار وإلى أقصى اليمين، ومن القمة إلى القاع مرورًا بكل الدرجات، قد أثرت على الجميع كبارًا وصغارًا.. واعين ومغمى عليهم.. بما يمس أدق تفاصيل حياتهم اليومية ومعاناتهم الاقتصادية و«الخراب العمومى» الذى شمل كل مظاهر حياتهم وسلوكهم وأخلاقهم جميعًا.. بحيث لم يكن ممكنًا لأى أحد أن يتجاهلها.

ربما كان للبيئة المأساوية التى تشكل، خلالها، وعى هذا الجيل أثر واضح فى انحيازه للتعبير عن المسكوت عنه اجتماعيًا وسياسيًا، وربما هذا ما يؤكده الناقد سمير فريد فى كتابه «الواقعية الجديدة فى السينما المصرية»، حيث يقول: «كان هذا الجيل، جيلنا، قد تفتح وعيه على الصدمة الكبرى عام ١٩٦٧، وأراد أن يغير مصر، وكان سبيله إلى ذلك أن يغير السينما التى تصنع فى مصر، عقد كامل من الأحداث الجسام التى هزت مصر من مظاهرات ١٩٧٢ إلى رصاصات ١٩٨١، ومن التجارب الشاقة التى خاضها جيل بائس ولكنه شجاع من أفلام جماعة السينما الجديدة إلى أفلام معهد السينما، ومن إصدار مجلة السينما إلى إصدار جريدة السينما والفنون».

وإذا كانت مرحلة السبعينيات قد أفرزت عددًا كبيرًا من الأفلام الواقعية، فقد أفرزت أيضًا مجموعة من الأفلام السياسية المهمة منها «أبناء الصمت» إخراج محمد راضى ١٩٧٤ و«العمر لحظة» إخراج أشرف فهمى ١٩٧٥، و«بدور» بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحى ١٩٧٤ إخراج نادر جلال، و«وراء الشمس» إخراج محمد راضى ١٩٧٧، و«شاهد إثبات» لعلاء محجوب ١٩٨٦ و«البرىء» ١٩٨٦ إخراج عاطف الطيب، و«التحويلة» لأمالى بهنسى ١٩٩٦، والأفلام الأخيرة تعرضت للمعتقل السياسى بالنقد.

كما شهدت فترة السبعينيات ظهور مجموعة من النجوم فى فن التمثيل أمثال نور الشريف ومحمود ياسين ونجلاء فتحى وبوسى ويحيى الفخرانى وسمير غانم وميرفت أمين ومحمود عبدالعزيز وعبدالعزيز مخيون ومحمود الجندى ونبيل الحلفاوى ومحمد متولى ونيللى ونورا وشهيرة وسهير رمزى وهدى رمزى ويونس شلبى وسعيد صالح وأحمد زكى وغيرهم.