رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر فى إفريقيا.. من عبدالناصر إلى السيسى

 

مرت مصر فى علاقتها مع إفريقيا بأكثر من مرحلة ما بين الاندماج والتهميش والعودة. كان عبدالناصر مدركًا أهمية إفريقيا على كل المستويات، فجعلها ضمن أولويات الدوائر السياسية الخارجية لمصر «عربية، إفريقية، إسلامية»، وهو ما قاد إلى أن أصبحت العلاقات المصرية الإفريقية فى أوج حالاتها فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. 

وفى كتاب «فلسفة الثورة» لعبدالناصر كتب: «إننا لن نستطيع بأى حال من الأحوال حتى لو أردنا أن نقف بمعزل عن الصراع الدامى المخيف الذى يدور اليوم فى أعماق إفريقيا بين خمسة ملايين من البيض، ومائتى مليون من الإفريقيين، ولسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالى للقارة، والذين نعتبر صلتها بالعالم الخارجى كله، ولن نستطيع بأى حال من الأحوال أن نتخلى عن مسئوليتنا فى المعاونة بكل ما نستطيع على نشر الوعى والحضارة حتى أعماق الغابة العذراء». 

وهذا ما تُرجم بالفعل إلى اهتمام وتأكيد أن مصر ذات هوية إفريقية تحافظ عليها، وأنها شريك أساسى فى التنمية والبناء، فعبدالناصر عبر استراتيجيات متوازية ومتقاطعة، نفذ إلى إفريقيا متسلحًا بإدراكه السياسى والاقتصادى والأمنى، ورأى أن استمرار إفريقيا تحت الاستعمار يضعف مصر، ومن هذا المنطلق قدم عبدالناصر الدعم للزعامات الشابة الإفريقية لحصول الدول على استقلالها، وهو ما فجر ثورات التحرر الوطنى فى إفريقيا، حتى لقب بـ«أبوالأفارقة»، وجعل من مصر قِبلتهم، فكان يعى تمامًا أن مصر دولة مصب، ومنابع النيل تأتى من خارجها، قائلًا: «النيل شريان الحياة لوطننا يستمد مكانه من قلب القارة». ولم تقف منافع مصر فى إفريقيا على المصالح المائية والأمنية فقط، بل امتدت إلى المصالح الاقتصادية عن طريق شركة النصر للتصدير والاستيراد، التى كان لها دور مهم فى فتح أسواق إفريقيا للمنتجات المصرية، ويمكن إجمالًا أن نطلق على هذه المرحلة أنها «مرحلة نموذجية من الاندماج فى إفريقيا».

مثَّل موت عبدالناصر فرصة سانحة للجناح اليمينى فى تنظيم الضباط الأحرار، متمثلًا فى السادات، الذى وصل إلى السلطة، أن يقوم بتصفية بقايا رجال عبدالناصر، وهو ما ترتب عليه انتقال نظريات التحرر الوطنى والاقتصاد المخطط والأيديولوجيا النضالية لتحرير فلسطين وتوحيد العرب وإفريقيا، على النحو الذى كان يمارسه ناصر فى خطابه وسلوكه، إلى سياسة جديدة قوامها التحالف مع اليمين العربى السعودى آنذاك، ومحاولة الالتحاق بالحلف الغربى متمثلًا فى أمريكا، وعلى هذا النحو حدث رد فعل عنيف من الداخل من القوى السياسية تحديدًا من اليسار والناصريين، الذين مثلوا تهديدًا حقيقيًا للسادات ونظامه، وهذا ما دفعه إلى منح التيار الإسلامى قبلة الحياة مرة أخرى، ليتصدوا لهذا التيار. 

انعكست هذه التغيرات المهمة فى مرتكزات السياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا، التى صاحبتها بداية تهميش إفريقيا وتجاهل عمقنا الاستراتيجى، ومصالحنا المختلفة هناك، وهذا ما ألقى بظلاله بالطبع على العلاقات المصرية الإثيوبية من تهميش وتعال حتى وصل الأمر إلى أن السادات رفض مقابلة وفد إثيوبى زار مصر عام ١٩٧٦، وهذا التعجرف أوصل الأمر إلى صدام عنيف بين مصر وإثيوبيا لتبدأ إرهاصات أزمة المياه فى الظهور. 

وفى فترة حكم مبارك، لا سيما بعد حادثة أديس بابا، وصلت العلاقات المصرية الإفريقية إلى أسوأ ما يمكن أن تكون عليه، لتفقد مصر قيمتها تدريجيًا فى هذا العمق الاستراتجيى المهم، بسبب فقدان نظام مبارك لرؤية محددة للتعامل مع إفريقيا، وخلال عهدى مبارك والسادات، ومع الفراغ التى أحدثته مصر فى إفريقيا وجدت بعض القوى الفرصة سانحة للتغلغل والنفوذ فيها، وهو ما زاد من أزمة سد النهضة تعقيدًا.

وبعد عام ٢٠١٣ أدركت القيادة السياسية، متمثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، أهمية العودة إلى إفريقيا، والإدراك التام إلى أهمية وجود الدائرة الإفريقية فى السياسة الخارجية المصرية، ليس فقط انطلاقًا من المصالح المائية، ولكن أيضًا من أجل المصالح الاقتصادية فى السوق الإفريقية الواعدة، التى يتدافع ويتكالب عليها الجميع، فقامت الدولة المصرية بعمل زيارات دبلوماسية، واستقبلت عددًا من الرؤساء لبحث سبل تعميق العلاقات وأطر التعاون المشترك وتوقيع اتفاقيات التفاهم الدبلوماسى والأمنى والاقتصادى بين مصر والدول الإفريقية، كما اهتمت بالنزاعات الموجودة فى غرب ووسط إفريقيا، ومكافحة الإرهاب. وعلى المستوى الاقتصادى حدث بعض الاتفاقيات التى تقود نحو التكامل، خاصة أن الدول الإفريقية دولًا واعدة بالاستثمار، وتمتلك المواد الخام اللازمة لعمليات الإنتاج، وهو ما يسهم فى تطوير منظومة التصنيع، ومنظومة الزراعة التى تحقق الأمن الغذائى فى ظل تغيرات المناخ التى يشهدها العالم.

استعادت مصر وعيها بدور إفريقيا فى علاقة مصر بالعالم، وفى هذا يمكن أن تستطيع الدولة المصرية- من خبراتها التاريخية الطويلة فى مرحلة عبدالناصر- تطوير آليات هذا الوجود بما يتلائم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وقوانين تبادل المنافع فى عالم الاستثمار، حيث تصبح الفائدة بين المانح والممنوح. وأتمنى أن تكون هناك منصات إعلامية موجهه إلى الأفارقة ببعض لغاتهم الرئيسية، وتعميق التبادل الثقافى والمعرفى، الذى سيترتب عليه تواجد سياسى وأمنى واقتصادى مكثف.