رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد القرملاوى يكتب: «أبناء حورة» فى حَضرة الليالى الألف

أحمد القرملاوى
أحمد القرملاوى

 

الخيال هو أهم موارد الحياة وأسبابها على الإطلاق، مورد لا نخشى نضوبه ولا نفكر فى سُبل لتعويضه، بل نراه شائعًا متاحًا فى عقل كل إنسان، كما فى العقل الجمعى لكل ثقافة قديمة أو ناشئة.

غير أن الخيال مورد نادر فى الوقت نفسه، لو أردنا بذلك الخيال المحلِّق والقادر على صياغة العالم فى تصوُّر غير مسبوق، وهذا ما قام بتقديمه الكاتب والسيناريست عبدالرحيم كمال فى روايته المدهشة «أبناء حورة»، التى تُعَد إعادة تدشين لمشروعه الروائى؛ نص فريد من نوعه، مدهش فى طموحه، يجمع بين الخيال الذى يمدُّ بصره لأبعد أفق، والجذور التى تنغرس فى أعمق طبقة من تراث الحكى، نص جدير بأن يكتبه واحد من حفَدَة نجيب محفوظ، ورث عنه ميراثَ الحكاية، وداوم على طقوس المحبة للعالم والإنسان.

حين ينشر كاتب سيناريو متحقق وذائع الصيت مثل عبدالرحيم كمال رواية من نوعية «أبناء حورة»، قد يُثار التساؤل عن السبب الذى دفعه لتفريغ شغفه وأخيِلته وحكاياته المدهشة فى قالب الرواية؛ لماذا لا يُوظِّف الوقت والجهد والخيال فى كتابة سيناريو يجلب له المزيد من الشهرة والمكاسب المتنوعة، خاصةً وقد شق طريقه نحو قمة هذا الفن وتفتَّحَت أمامه جميع أبوابه؟

تُجيب الرواية نفسها عن هذا التساؤل، فما قدَّمه كمال فى نصه البديع «أبناء حورة»، هو ما يتجاوز فى طموحه طاقة أى عمل درامى، محلى على الأقل؛ هذا نص كبير لكاتب كبير، يملك ناصية الحَكى والخيال ولا يعترف بحدود مسبقة تفرضها آليات الإنتاج.

فى «أبناء حورة»، تُسيطر مخلوقة خرافية لها جسد طائر ورأس امرأة على مقاليد الحُكم فى عدد من الدول، إذ تضع بيضَها فى عواصم مهمة فيخرج منها أبناء لهم أجساد بشر ورءوس طيور ليحكموا الناس بالبصيرة والعدل. وفى محيط كل بيضة نلتقى البشر والحكايات المتشعبة فى الزمان والمكان، نقابل العمالقة والعشاق والانتهازيين، فى عوالم يتفاعل فيها البشر والشجر والطيور على نحو لا ينى عن إدهاش القارئ، طوال ما يزيد على أربعمائة صفحة من الحكى والوصف، تنتقل بالقارئ من حكاية لأخرى، ومن شخصية شديدة الاعتيادية لأخرى موغلة فى العجائبية، فيما البحث دائم ودائب عن الحب؛ الحب وحده الذى بإمكانه إنقاذ البشر من شرور العالم ومخاوفه.

ثمة خيط يربط رواية عبدالرحيم كمال برواية «ليالى ألف ليلة» لنجيب محفوظ، وهى من أرق رواياته وأكثرها إدهاشًا؛ إنه خيط الأسطورة والخيال المحلِّق دون قيد، والذى تتضافر فيه الحكايات فى موجات متواصلة لا تتوقف عن الإدهاش. البَرِية بشخوصها وتفاصيلها هى عالم الرواية، لا فرق بين طير وبشر، بين شجر وحجر، الكل صاحب دور وقادر على تشكيل المصائر وتحويل المسارات. تتشابه الروايتان أيضًا فى تغذّيهما من مَعين واحد، هو مَعين ألف ليلة وليلة، حتى وإن ادعت «أبناء حورة» حدوث وقائعها فى المستقبل؛ هى رواية تُطالِع الماضى من موقعها فى المستقبل، تنشد زمن ما قبل عولمة العالم وتنميط البشر وتشيىء المشاعر، قبل تحول البشر لنمط الاستهلاك الجائر والفارغ من الروح، لنمط العزلة عن الكون وعن سائر المخلوقات، وعن المطلق بالتأكيد. تُجيب الرواية ببراعة عن سؤال: لماذا يكتب عبدالرحيم كمال الروايات، بعد كل هذا النجاح؟ وكانت الإجابة أن القالب الروائى يمنح مساحة غير محدودة للخيال الحكائى، لا قيد فيها ولا شرط، مساحة تمتدُّ من زمن الملاحم القديمة، وستتواصل حتى فناء البشرية؛ كأنما الرواية سجادة ملونة ينسجها الخيال ويطير بها هنا وهناك؛ سجادة تتسع للجميع، ولن تتوقف يومًا عن التحليق.