رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يمكن لنصف كيلو عدس أصفر أن يغير العالم؟ «2-2»

تتميز المجموعة القصصية «نصف كيلو عدس أصفر» بالتجريب والتجدد فى استخدام أشكال فنية جديدة فى معالجة القصة القصيرة، ومنها شكل المحررات الرسمية أو المنشورات، ففى قصة «غسيل بريتونى» نجد أنه تم استخدام فضاء الصفحة ليكون جزءًا من دفتر أحوال قسم الغسيل البريتونى «وحدة ذات طابع خاص»، والعبارة الأخيرة تعنى أنه ليس مجانيًا والعلاج يتم بمقابل مادى، وبتتبع اليوميات التى تتوزع بين الفترة الصباحية والنوبتجية والفترة المسائية نتعرف من خلال الملاحظات التى تكتبها ممرضة، فى فترة عمل تستغرق ٨ ساعات، على عالم المستشفى الكائن فى إحدى القرى، وطبيعة العلاقة الفوقية بين الأطباء والمرضى، والنفعية بين الأطباء والممرضات.. ومن بين النثرات المكتوبة بعفوية وتلقائية، والتى تتناوب على تسجيلها ممرضة كل فترة، ندرك العديد من خواص المجتمع المصرى وسيطرة حالة التواطؤ المضمر بين الجميع، واختلاط العام بالخاص فى موقع العمل.. تركز الملاحظات على حالة مريض بالقسم تصاحبه والدته المسنة، وهو مريض فقير، دائم الشكوى والألم، ويتعامل العاملون فى المستشفى مع ألمه باعتيادية وأريحية وكأنه الطبيعى والعادى، وليس بهمّ أو موضوع يستحق الاهتمام والبحث عن مخففات ألمه، إنها حالة من التبلد الحسى الاعتيادى تجاه الألم والفقر.. فنقرأ «أخذت صور الخطوبة لبنات العناية، وفرجتهم عليها، وكانوا هيتهبلوا من حلاوتها.. ربنا يتمم لك بخير يا حنان يا أحلى عروسة فى الدنيا كلها، وكلنا مستنيين صور الواتس ابعتيها بأة. 

ملحوظة مهمة: أنا موافقة نلم فلوس عشان الشباك وأُكرة الباب، بتوع الفترة الصباحية ما تفرقش معاهم، عشان بيبقوا الصبح، ومش بيقعدوا فى العنبر».

إنها يوميات تحمل الكثير من السخرية السوداء دون أى كلمة ساخرة، فقط تجميع ردود الأفعال واستمرار الحياة الطبيعية للممرضات، بما فيها من حب وخطوبة وتبادل للألغاز.. كل هذه الأشياء مختلطة مع عذابات مرضى فقراء ومحاولات ذويهم مساندتهم.. والمفارقة الأشد سخرية أن دفتر الأحوال يبدأ نوبتجية بالعبارات التالية: «تم استلام القسم، وكل شىء على ما يرام، وكل الأجهزة سليمة، والأدوية موجودة». 

يستمر التجديد واستخدام بنية سردية تجريبية فى قصة «منشور انتخابى»، حيث نرى منشورًا انتخابيًا يتصدره «بسم الله الرحمن الرحيم- على بركة الله- البطل السياسى الجرىء- فرج أمين شولح- عمال- مستقل- رمز الضفدع».. وعبر المنشور يستعرض المرشح الخدمات التى قدمها لأبناء دائرته، فنرى صورة تامة للفساد الانتخابى والتربيطات والعلاقات التبادلية النفعية بين كل قطاعات المجتمع، دون صراخ أو مواعظ، الواقع يفضح نفسه فى منشورات علنية تحتاج فقط من يقدمها برؤية فنية.

وفى نقلة أسلوبية مختلفة ولغة شديدة الرقة والشاعرية نقرأ قصة «منظر طبيعى»، حيث اللغة التى تصف ببراعة وحنو، كما فرشاة رسام تنثر الألوان فتغتنى بها اللوحة الفنية: «الشتلات خضراء، شبران أو ثلاثة أعلى الأحمر الداكن المتسرب من قدمه، الذى انتشر إلى ماء الحقل، أخضر الحشائش غامق يضرب للسمرة، أخضر الشتلات فاتح فوق حمرة الماء المصقولة التى تعكس الشمس، الأبخرة تراقصت تهز الصورة، وملابسه تُرى من بعيد بيضاء ناصعة، رغم اتساخها بالصفرة المدخَّنة إذ تُرى من قريب».

إنها لوحة فنية لمنظر طبيعى ببطلها الفلاح المنعزل فى أرضه ووسط الطبيعة التى ينسجم معها، رغم إصابة قدمه بجرح يظل ينزف، لكن جرحه لا يشغله ولا يهتم به، كأنه جزء منه ومن طبيعة الحياة من حوله، تحوط به كائنات كثيرة نشيطة وغير صاخبة، سرب طيور بعيد يعبر السماء، فراشات، حشرات، جرذ يظهر ويختفى فى جسر المصرف، خنفساء تسير وحيدة بلا اكتراث، وأفعى تتسلل بسلام من موضع مجهول لآخر مجهول أيضًا.. مسارات الدم تتأكد بين الحصى والعشب، تدفع كسرات وفتافيت القش، والأوراق الجافة المتساقطة من الشجرة. 

تعبّر قصة «منظر طبيعى» عن حالة الاستمرارية والثبات بما يجعلها بحق لوحة تشكيلية غنية بالألوان والتفاصيل الشجية.

مجموعة «نصف كيلو عدس أصفر»، للكاتب محمد داود، واحدة من المجموعات الجديرة بالتقدير والاحتفاء، وإن كنت أعتب على «دار ميريت»، وهى التى عودتنا على التجديد والابتكار فى أغلفتها، أنها قدمت المجموعة بغلاف باهت، لا يحمل أى فكرة أو روح، بل مجرد معالجة للوحة غير واضحة الخطوط، فقط لطخات سوداء على لون ترابى مصفر، إن الغلاف الكالح للمجموعة يظلمها تسويقيًا، فأتمنى تدارك هذا الأمر فى الطبعات التالية، فهذه مجموعة تستحق منّا الكثير من الثناء.