رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار بلا أسرار

 

على «فيسبوك» قرأت بيانًا يطالب بالإفراج عن الناشط أحمد دومة، وفى صحيفة «الوطن» قرأت مقالًا لزميل فاضل يرفض هذه الدعوة، ويعدد التهم التى نسبت لدومة، التهم كلها تهم جنائية، أكدها اعترافه بحرق المجمع العلمى فى عام ٢٠١٢، وتأكيده عبر وسائل الإعلام أن هذا هو فهمه للثورة.. لفت نظرى أن البيان الذى يطالب بالإفراج عن دومة لم يُشر لهذه الاتهامات كلية، تجاهلها تمامًا ووصف أحمد دومة بأنه «شاعر».. دومة يكتب الشعر فعلًا، لكنه لم يسجن بسبب الشعر.. سُجن بسبب اعترافه بالتورط فى أعمال حرق وإتلاف منشآت.. إلخ.. من وجهة نظرى فإن البيان يتسم بعدم الجدية وسأقول لك لماذا.. هو بالضبط تجسيد لرغبة البعض فى الدخول فى حالة «حوار الطرشان» حيث لا يسمع أحد أحدًا.. وربما يتكلم الجميع.. الذين وقّعوا البيان سيصدرونه.. والمعنيون بالأمر سيتجاهلونه.. وكأن شيئًا لم يكن.. هى حالة نموذجية إذن لحوار الطرشان «مع الاعتذار عن الوصف».. متى يكون الحوار جادًا.. عندما يكون هناك جديد يمكن البناء عليه، أتصور- وهذا اجتهادى الشخصى تمامًا- أن يصدر دومة بيانًا يعتذر فيه عن سلوكه طريق العنف، ويعتذر بأنه كان صغير السن وقتها، ويعلن عن اعتزامه انتهاج طريق المعارضة السلمية، أو حتى اعتزاله السياسة للأبد.. أنا لا أطلب منه أن يعتذر عن أفكاره السياسية سواء كان قوميًا أو ليبراليًا أو يساريًا.. أنا أطلب منه أن يتبرأ من العنف الذى قاده إلى السجن.. خاصة أنه اعتبر العنف هو الطريق الوحيد للتغيير.. عندما يصدر دومة هذا البيان «الافتراضى» يصبح هناك جديد فى الموقف، هذا الجديد يدعو الدولة لإعادة التفكير، لأنه وضع أوراقًا جديدة على مائدة الحوار، هذه الأوراق الجديدة ستدعو للنظر والبحث، والرد عليها بخطوة مماثلة.. أما مجرد إصدار بيان عاطفى لا يقدم جديدًا فهو لا يعبر سوى عن شحنة عاطفية يتم إفراغها بمجرد التوقيع على البيان.. ما ينطبق على هذه الحالة ينطبق على حالات أوسع من التيار الذى اصطلح على تسميته بـ«التيار المدنى»، وهو مع كامل الاحترام لمنتسبيه تيار تائه.. وستزداد حالة التيه التى يمر بها فى قادم الأيام.. والسبب أنه لا يعبر عن قوى اجتماعية واقتصادية فى المجتمع المصرى، هو يعبر عن مثقفين أفراد ينتظمون فى جماعات صغيرة.. وهم مثل أى أفراد فيهم المثالى، وفيهم النفعى، فيهم الباحث عن المبدأ وفيهم الباحث عن المصلحة، ولأنهم لا يعبرون عن قوى كبيرة فقد غلب على بعضهم العلاقة «الذيلية» بالقوى الكبرى.. بعضهم وجد راحته فى أن يكون ذيلًا لبعض تيارات اليسار الأوروبى، أو الأمريكى، وبعضهم أصبح ذيلًا لجماعة الإخوان، وبعضهم ظل تائهًا، لا هو هنا، ولا هو هناك، لا هو يستطيع أن يحرك الناس، ولا هو يستطيع أن يؤثر فى الدولة.. بعضهم بقى فى انتظار «جودو» أو فى انتظار ما لا يأتى.. إننى لا أقلل أبدًا من شأن هذا القطاع المهم من النخبة المصرية، وبينى وبين بعض أفراده أواصر صداقة وود واحترام.. لكننى أراه تائهًا.. مترددًا.. عاجزًا عن الفعل.. غاضبًا من عدم المشاركة.. لكنه لا يقدم ما يشجع على دعوته للمشاركة.. إن الثبات على المبدأ الأخلاقى فضيلة.. لكن الثبات على الموقف السياسى جمود ووثنية فكرية.. لقد مرت ثمانى سنوات على ثورة ٣٠ يونيو اتضحت فيها حقائق كثيرة، بالنسبة لى فقد أثبتت دولة ٣٠ يونيو انحيازًا عظيمًا لجملة السياسات التقدمية «والتقدمية لا تعنى اليسارية»، وأثبتت انحيازًا للفقراء، ولحقوقهم فى العلاج، والسكن، والتعليم، والأمن، وأنصفت المرأة، والشباب كما لم يحدث من قبل، واجتهدت فى تحقيق العدالة الاجتماعية وفق آليات السوق والحفاظ على القطاع الخاص، وأعلنت حربًا جادة على الفساد، وانخرطت فى خطة هائلة للتنمية، والمعنى أن الدولة تحقق أهداف الثورة بطريق الإصلاح، فما هو المعنى لأن يبقى مجموعة من النخبة المصرية يظنون أن الطريق هو الثورة الدائمة.. وأن علينا أن نسقط النظام ونأتى بنظام جديد.. لا يعجبنا أيضًا فنسقطه.. وهلم جرًا.. إن هذا بالتأكيد تصور عبثى للعالم وللوطن.. وللحياة.. لا يجر على أصحابه سوى الخيبة.. والوبال.. والانفصال عن الواقع.. والاغتراب عنه، ومن ثم المبالغة فى رفضه.. بينما العالم كله فى الخارج يسير إلى الأمام.. إننى أدعو التيار المدنى المصرى إلى أن يترك فكرة الثورة جانبًا حيث أثبتت عدم نجاحها فى الواقع المصرى، وأن يتبنى فكر الإصلاح، وأن يحول نفسه لجزء من مؤسسات الدولة المصرية السياسية والبرلمانية، والجماهيرية.. وهو ما فعله عدد من العناصر الإصلاحية بالفعل فى تنسيقية شباب الأحزاب والبرلمان.. وغيرها من المؤسسات.. على التيار المدنى أن يقدم الجديد وإلا فعلى ماذا يكون الحوار؟