رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ التهامى.. بعض من زمن الفن الجميل

في إطار فعاليات ليالي "مهرجان القلعة للموسيقى والغناء"، الذي اختتمت فعاليات دورته الـ"29" منذ أيام، أسعدتنا دار الأوبرا المصرية بليلة طربية مع صوت وإنشاد الشيخ ياسين التهامي، صاحب المدرسة الإنشادية المتفردة، التي لم يسبقه إليها كثير من كبار المنشدين الشعبيين، فالشيخ ياسين حقق شهرة عالمية ورزقه الله قبولًا كبيرًا في الداخل والخارج وكافأه بجماهيرية لا يدنو منه فيها أحد من جيل المنشدين- بل والمطربين- المعاصرين.
للرجل من المريدين ومحبي فنه ما يجاوز مئات الآلاف، وهم الذين ظلوا على استعداد لتتبع الشيخ حيث ووقتما كانت حفلاته، رجل حفظ عامة الناس قصائد المدح التي ينشدها، لم يمنعهم من متابعته ولا الاحتفاء به كونه أخلص للفصحى وانتقى من أبياتها ونفائس المديح النبوي ما تناقله العوام، وهو أمر صار جد صعب هذه الأيام، حتى إن كبار مطربي الشرق كله لم يعد يتصدى عمالقتهم للغناء بالفصحى منذ سنوات وحجتهم الدائمة هي: من سيفهم أغنياتنا إن اخترنا كلماتها بالفصحى؟!
ولكن فارس الإنشاد الشيخ ياسين أخلص للغة العربية وحفظ أصعب أبياتها ونقلها للناس بصوت شجي وعزف راق فغنى الناس بعده كلمات قصائد، مثل: يا رفاق الصبر، والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي.
ولو تأملت وجوه رواد حفلات الشيخ ياسين ومريدي فنه وهو ينشدهم لوجدتهم يتوحدون مع المعاني ويعيشون حالة من التجلي الفني رغم هدوء موسيقاه وبساطة الآلات الموسيقية التي يستخدمها العازفون المرافقون له باقتدار كبير.
وبعيدًا عن تعالي المثقفين وبحثًا عن طريقة مختلفة لإحياء اللغة تمنيت لو أن واحدًا من أفاضل العلماء أعضاء "المجمع اللغوي" اقترح تكريم الشيخ ياسين كواحد من المحافظين على اللغة والمشجعين على استخدامها، قد يقول قائل: ولكن للشيخ الذي تريد الاحتفاء به هنات لغوية تخدش أذن المتخصص ولا يجوز تجاوزها، فكيف نكرمه كعلماء لغة ونحاة كبار؟
وأجيبهم بقولي: وهذا يحسب للشيخ، فلا أظن أن لدى فضيلته من المؤهلات والدراسات ما يؤهله لاستخدام مفردات جزلة في  أناشيده، فهو حتى لم يكمل دراسته الثانوية، لكنه حفظ القرآن الكريم، الأمر الذي ساعده في استيعاب المفردات وفهم معاني القصائد، بل وتبسيطها وإيصال معانيها لجمهوره متعدد الثقافات.
يسعى الشيخ بطريقة الأداء وتلوين الإلقاء وإعادة العبارات لأن يبسط المعاني ويوصلها لمريدي فنه، وقد فعل كل هذا باقتدار يحسب له، على الرغم من أن جمهوره في معظمه ذو مشارب متعددة وثقافات مختلفة بين الأساتذة الأفذاذ من العلماء أمثالكم، ومن الناس الطيبين الذين جذبهم الأداء ثم اللحن فتذوقوا المعاني وصاروا يرددونها كما كانت تفعل "أطلال" أم كلثوم و"جندول" عبدالوهاب وغيرهما في الخمسينيات من القرن الماضي.
أمر مدهش آخر يضيفه فن الشيخ ياسين التهامي وإبداعاته- علاوة على الشأن اللغوي- وهو مدة الأغنيات، فلا أدري من الذي أشاع وأصر على أن الجمهور لم يعد يحتمل الأغنية الطويلة نسبيًا، فما بالكم لو كانت قصيدة فصحى.
فإذا بالشيخ يحرص على أن تكون قصائده من القصائد الطويلة، مما يجعل لديه ولدى عازفيه مساحة لتلوين المقامات والتنقل بينها بمهارة وكفاءة تناسب المعاني التي تنطق بها الكلمات، وهو بهذا يؤكد ما طالب به عدد ليس بقليل من المطربين الكبار الذين أجد في حنجرتهم القوة وفي ثقافتهم القدرة وفي ذائقتهم الثقافة التي تسمح لهم بأن يردوا موارد الأغنية الطويلة باقتدار يبرز جماليات صوتهم ويخرج بأغنياتهم من القوالب الموسيقية الإيقاعية الجامدة التي حبسوا أنفسهم فيها.
ولدى الشيخ ذو الاثنتين وسبعين سنة القدرة على التفاعل مع أحداث الوطن واستغلال جماهيريته في توعية الجمهور العاشق له بأخطار محدقة.
كما فعل بإيجاز واقتدار في ختام حفله الناجح حين وعى جمهوره بكلمات بسيطة وبلغة فصحى أيضًا بأهمية توخي الحذر والتزام التباعد الاجتماعي حماية لأنفسهم من خطر الفيروس المنتشر. كل هذا دون أن يسمي الفيروس ودون أن ينشر الرعب بين الناس، ولكنه فعل بحسن اختيار للكلمات، ثم أنهى الشيخ حفله بقراءة "الفاتحة" وتوحد معه جمهوره في حسن ختام للحفل فبدا الجمهور وكأنه يقول للشيخ: شكرًا فقد أمتعتنا بحسن الاختيار وروعة الأداء وصفاء الليلة الإنشادية.
وبهذه الليلة الإنشادية يؤكد الشيخ ياسين من جديد أنه بالفعل كما وصفوه "عميد المنشدين، وسلطان المداحين، وأمير العاشقين"، وأضيف أنه أيضًا ترجمان المعاني الراقية، فهو الذي عرف جيلا لا يقرأ بأشعار كل من: المتنبي وأبوفراس الحمداني ورابعة العدوية، وعنترة بن شداد.
ومن المحدثين أنشد الشيخ أشعارًا للأمير عبدالله الفيصل وعبدالله البردوني وعلي عبدالعزيز وأحمد شوقي وعلية الجعار والأخطل الصغير "شارة الخوري"، وطاهر أبوفاشا، وإيليا أبي ماضي، فضلا عن مختاراته من أشعار عمالقة الشعر الصوفي أمثال عمر بن الفارض ومنصور الحلاج ومحيي الدين بن عربي.
ويبقى الشيخ ياسين التهامي بعضًا من زمن الفن الجميل.