رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حضرة المحترم «2»

أسرار جديدة من الملف الوظيفى لـ«نجيب محفوظ»

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان الناقد الكبير رجاء النقاش واحدًا من قليلين امتلكوا مفاتيح نجيب محفوظ، وقد سجل مذكراته عبر سلسلة حوارات طويلة جمعها فى كتاب صدر عن مركز الأهرام، ثم صدر مرة أخرى عن دار الشروق، وحمل عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ».. ورغم الطبيعة المتحفظة للأستاذ نجيب فإنه تكلم بصراحة كبيرة مع «النقاش» فى نواح كثيرة.. منها عاداته أيام الشباب، ومغامراته، وعلاقته بأدباء عصره.. وصداقاته المختلفة، وكان من أهم الأبواب ذلك الباب الذى تحدث فيه عن علاقته بالوظيفة، حيث ظل الأستاذ نجيب موظفًا منذ ١٩٣٥ وحتى ١٩٧٠.. قضى عشرين عامًا منها فى وزارة الأوقاف، يخفى أنه كاتب عن زملائه، وقضى الشطر الثانى موظفًا فى وزارة الثقافة بمسمياتها المختلفة، وقد كفلت له الوظيفة نوعًا من الاستقرار المادى جعله يستمر فى الكتابة، وأعفته من العمل فى الصحافة التى كان يرى أنها مضرة للكاتب، وأطلعته على مئات من النماذج..

 

أسرار جديدة من الملف الوظيفى لـ«نجيب محفوظ»

اعترف بها «أديب نوبل» لرجاء النقاش.. و«الدستور » تنشرها فى الاحتفال بذكرى مبدع مصر الأعظم

الكثير من أبطال أعمالى قابلتهم فى حياتى الوظيفية.. و«المرايا» مستوحاة من أناس تعاملت معهم فى «الأوقاف»

الوظيفة والمقهى والحارة مصادر ثلاثة رئيسية فى أدبى.. والموظف موجود بكثافة فى أعمالى القصصية لروائية

عملت رئيسًا لمؤسسة السينما لمدة عامين لم أفتح فيهما كتابًا ولم أكتب كلمة وعشت فى اكتئاب عام

 

يواصل نجيب محفوظ اعترافاته لرجاء النقاش:

تجد فى أعمالى، خاصة رواية «المرايا»، شخصيات عديدة من تلك التى قابلتها فى حياتى الوظيفية، ومنها شخصية البطلة فى إحدى قصص «المرايا» التى أفسدوها وحولوها إلى فيلم «أميرة حبى أنا»، وهى قصة واقعية كانت تصلح لفيلم كوميدى، لأن اثنين من الانتهازيين أراد كل منهما استغلال الآخر فضاعا وهلكا، ولا أذكر أسماء الأبطال فى أعمال مثل «المرايا» و«أحاديث الصباح والمساء» لأن بها شخصيات كثيرة.

ولكننى أتذكر الشخصيات الحقيقية لهذه القصة الواقعية التى تحولت إلى فيلم «أميرة حبى أنا» فبطلها «مدكور»- وهذا ليس اسمه الأول، إنما اسم العائلة- شاب من عائلة معروفة وعمه هو «عبدالخالق باشا مدكور»، وكان متزوجًا من ابنة عمه الغنية» وألحقوه بوظيفة فى وزارة الأوقاف وكان شديد التأنق، والبطلة واسمها «برلنت» كانت موظفة جديدة فى إدارة «التحرى» بالوزارة، وعملها هو إجراء تحريات عن العائلات التى تتقدم للوزارة طالبة الإحسان.

وكانت فى هذه الإدارة فتيات وسيدات حتى لا تتحرج العائلات أثناء هذه التحريات، و«برلنت» فتاة جميلة ومتحررة وكثيرًا ما كنا نمازحها أنا «وعبدالسلام فهمى» ولقد قمت بتغيير اسمها فى الرواية.

وضع «مدكور» عينه على «برلنت» التى لم تمانع فى إقامة علاقة معه، واتفقا على الزواج فى السر خوفًا من بطش حماه «الباشا» وأمضيا أسبوع عسل فى الإسكندرية، وفى نهاية الأسبوع طلقها بعد أن استمتع بها ونال ما اشتهاه. عادت «برلنت» إلى العمل وقصت علينا- أنا وعبدالسلام فهمى- ما جرى ووجهنا إليها اللوم.. واكتشفت برلنت بعد ذلك أنها حامل، ولم يكن مصيرها مأساويًا، لأن شخصًا آخر يعمل مقاولًا أُعجب بها وتزوجها ومنحها الستر وكانت نهايتها حسنة.

وأذكر أن «برلنت» كانت زميلة لابنة «رتيبة رشدى» أخت «فاطمة رشدى»، وكانت «رتيبة» صاحبة صالة وابنتها بطبيعة الحال تعرف تاريخ أمها، وكانت مثالًا للأخلاق الضعيفة، وحصلت على ترقيات وعلاوات، وسمعت أنها سهلت الأمور لكبار الموظفين من الوزراء ووكلاء الوزارة وأصبحت أقوى شخصية فى وزارة الأوقاف.

أما «مدكور» فإن نهايته جاءت مثل روايات يوسف بك وهبى، فبعد سنوات طويلة كنت أسير فى ميدان التحرير وسط الحديقة المواجهة للميدان، وجدت أمامى شخصًا شكله بائس للغاية واقترب منى وصافحنى وعرفت إنه «مدكور» وعلمت أن عمه «عبدالخالق باشا» حاول إصلاحه وعلاجه من الشم والإدمان ولم يفلح فأجبره على طلاق ابنته، وأخذ أحفاده ورباهم، وكان «مدكور» قد تم فصله من وزارة الأوقاف، هذا الشاب الذى كان وسيمًا وجميلًا ويتمتع بالصحة والعافية طلب منّى بضعة قروش ليأكل، وحين لقيته لم يكن قد ذاق الطعام لمدة ثلاثة أيام، ولم أرَه بعد ذلك.

أخذت من الجمهور وأصحاب المصالح نماذج لقصصى ورواياتى، وكان يتردد علينا كثيرون فى وزارة الأوقاف، ومن هؤلاء نماذج كثيرة فى رواية «المرايا» ووزارة الأوقاف كانت بمثابة حكومة مصغرة، وزارات مصر كلها تلتقى عند الأوقاف من زراعة وصحة وتربية وتعليم.

والحقيقة أن وزارة الأوقاف ظلت شبه مغلقة حتى فتحها الوزير «عبدالحميد عبدالحق باشا»، حيث كانت لوزارة الأوقاف ميزانية محدودة، بالإضافة إلى ما يرد من الأوقاف الخيرية لإنفاقه على الخير، فى الوقت الذى كانت توجد فيه للوزارة ملايين الجنيهات هى ودائع فى البنوك لا تمس وليس لها فوائد، لأن فوائد البنوك حتى ذلك الحين فى نظر وزارة دينية كالأوقاف كانت تعتبر من الربا المحرم فتظل الأموال فى البنوك بلا أرباح وأصحابها لا يجدون قوت يومهم، فجاء «عبدالحميد عبدالحق» وهو رجل صاحب خيال وكان محاميًا وسياسيًا ومحبًا للفن، وكان صديقًا للموسيقار محمد عبدالوهاب وكان ضد الروتين.

وجد عبدالحميد عبدالحق أرضًا خرابًا تابعة للأوقاف، فأمر ببيعها وحول الأرض إلى نقود، وكان ذلك أيام الحرب العالمية الثانية فبيعت الأراضى بأسعار جيدة وتحققت للأوقاف موارد مالية لم نكن نحلم بها، واستثمرت هذه الأموال فى بناء أجمل عمارات فى تاريخ الأوقاف بعد أن كانت عماراتها قديمة متهالكة تشبه السجون، وأصبحت وزارة الأوقاف فى عهده من أغنى الوزارات فى الحكومة.

واستفاد من هذا التطوير المنتفعون بالوقف من الأهالى، وأصبحوا شركاء للوزارة، كما قام الوزير بتجديد مبنى الوزارة، وهو فى كل ذلك لم يخالف الدين أو اللوائح، إنما حارب الخوف والجمود.

أتذكر أن الوزير عبدالحميد عبدالحق عيّن الشاعر البائس المعروف عبدالحميد الديب فى الوزارة أثناء خدمتى بها. كنت أعرف «الديب» والتقى به فى مقهى «الفيشاوى» وعندما تم تعيينه فى الوزارة احتفل به أصحابه واشتروا له بدلة جديدة لكى يسافر ويتسلم الوظيفة التى كانت فى محافظة القليوبية تقريبًا، ثم وجده أصدقاؤه جالسًا على مقهى الفيشاوى مرتديًا البدلة الجديدة ولم يسافر إلى عمله، ولكنه على كل حال تسلم وظيفته.

وهنا أربط بين نموذجين: الأول نموذج تقديس المجتمع للموظف ورفضه وظيفة الفنان، والثانى نموذج الشاعر «الديب» وهو الفنان الذى لا يطيق أن يصبح موظفًا. كان «الديب» صعلوكًا كبيرًا، حياته هى الشعر فقط، وليس مهمًا أن يسكن أو يأكل أو يرتب أمور معيشته أو يبحث عن مصدر رزق من أى نوع، وإذا ما حل النوم فإنه ينام فى أى مكان، وكان مغرمًا بالنوم فى المراحيض العمومية. لم أختلط بالشاعر «الديب» جيدًا وأحيانًا كنا نلتقى وأسمع منه قصيدة جديدة، أما بؤسه وشقاؤه وحكايات صعلكته المثيرة فكنت أعرفها عن طريق الآخرين. كما كنت أعرف أنه شخصية ظريفة وساخرة ومحبوبة من أصدقائه.

أعطتنى الوظيفة فكرة جيدة عن النظام والبيروقراطية وعرفتنى بنماذج بشرية كثيرة، وأظن أن الوظيفة والمقهى والحارة هى مصادر ثلاثة رئيسية فى أدبى، وتجد الموظف فى الكثير من أعمالى القصصية والروائية.

أما بالنسبة لرواية «حضرة المحترم» فإن المستوى المادى فى الرواية هو الوظيفة والموظف، ولكن فى المستويات الداخلية لها فإن البطل يتطلع للعناية الإلهية، ولذلك غلبت عليها اللغة الدينية. ومن يقرأ «حضرة المحترم»- خطأ- على أنها رواية عن موظف وحياته فى الوظيفة سوف يجد تناقضًا بين موضوعها وأسلوبها.

فبطل «حضرة المحترم» يتدرج فى مقامات الصوفية، ويترقى فى الوظيفة، وكلما وقع فى خطيئة فـإنه يعتبرها خطايا السائر فى الطريق الصوفى، وكل مطالعته ليست بهدف التغيير أو الصعود الاجتماعى، وإنما من أجل «الوصول» بالمعنى الصوفى أيضًا، وعندما تأتيه الترقية فى الوظيفة فإنه يسمع المرسوم أو القرار وهو «راقد»، لأنه لا يستطيع أن يصل إلى أكثر من ذلك، وفى كتاباتى أعتنى بالجزء المادى وأعطيه حقه الواقعى، وربما بسبب هذا حدثت مشكلة رواية «أولاد حارتنا» ولو كنت معنيًا بالرمز وحده لكنت غيّرت من رسم شخصيات هذه الرواية إلى شخصيات نظيفة فى المظهر والسلوك، بدلاً من هؤلاء الصعاليك والفتوات والحشاشين وبعد صدور الرواية قال البعض إن أبطالها هم الأنبياء، وهذا غير صحيح بالمرة.

أما عملى فى السينما فقد أمدنى بنماذج من ممثلين وممثلات ومخرجين ومنتجين اختلطت بهم بالضبط، كما أمدتنى وزارة الأوقاف والجامعة ومجلس النواب بمثل هذه النماذج من قبل، الأخلاق العامة واحدة ومتقاربة، لكن اختلاف المهنة يعطى هذه النماذج ألوانًا مختلفة ولكل فنان رؤية واحدة وقد يكتب ثلاثين رواية لكى يصل إلى رواية واحدة فى آخر الأمر.

ومن نماذج الشخصيات التى التقيت بها فى مجال السينما والمسرح استفدت من بعضها فى «الحب تحت المطر» و«أفراح القبة» وأعمال أخرى، إلا أن عملى فى وزارة الأوقاف يظل هو أكبر احتكاك لى مع الوظيفة والموظفين، وجاء وقت عملت فيه فى مكتبة تابعة لوزارة الأوقاف بـ«قبة الغورى» وكان مديرها اسمه «السندوبى».

كانت المكتبة تطل على الغورية، حيث المشهد من الشرفة يجعلنى فى نشوة، وكنت أتمنى أن أبقى فيها حتى أصل إلى المعاش وأنا الذى اخترت المكتبة فى أعقاب تغيير وزارى، حيث طلب منى مدير المستخدمين الجديد اختيار وظيفة أخرى، بعيدًا عن مكتب الوزير الجديد، فاخترت المكتبة وتصور مدير المستخدمين أن اختيارى للعمل فى المكتبة كان احتجاجًا منى، ولم يكن الأمر كذلك.

كنت سعيدًا بالعمل فى المكتبة- كما قلت- فمن يعمل فيها لا يتذكره أحد بعدها أبدًا، وتكون بذلك فرصة لى لكى أعمل وسط الكتب، مثل مديرها «السندوبى» الذى لم يكن يفعل شيئًا سوى القراءة والتأليف، وأظنه أصدر شرحًا وتحقيقًا لديوان المتنبى. ولكن لم يمض وقت طويل على هذه «النعمة» حتى عيننى مدير الشئون الدينية الشيخ «سيد زهران» مديرًا لمكتبه وقال لى: «نحن الوفديين لا نضطهد الآخرين»، وكان الوفديون فى وزارة الأوقاف يعتبروننى من الأحرار الدستوريين بسبب صلتى بالشيخ مصطفى عبدالرازق، بينما أنا وفدى، وعملت مع «الشيخ سيد زهران» بسعادة بالغة، ولكن كم كنت أتمنى البقاء فى المكتبة هناك فى «قبة الغورى» حيث قرأت للروائى العظيم بروست، كان ذلك فى فترة وزارة الوفد ما بين ١٩٥٠ و١٩٥٢ و«الشيخ سيد زهران» الذى عملت معه كان يمت بصلة نسب للنحاس باشا، فشقيق الشيخ سيد كان متزوجًا من بنت شقيق النحاس.

وقال لى «الشيخ سيد زهران» يوم أن ألغى النحاس المعاهدة «الوفد انتهى»، كان النحاس بعد المعاهدة صديقًا للديمقراطية، ولم يكن التفاهم بينه وبين الإنجليز عسيرًا وبإلغائه للمعاهدة وضعه الإنجليز فى سلة واحدة مع الملك فاروق، هذه كانت وجهة نظر الشيخ زهران. والشيخ زهران كان رجلًا كبيرًا وصاحب خبرة ويعيش فى الأجواء السياسية، ومن هنا أصدر حكمه بانتهاء الوفد.

أوجدت المعاهدة عند توقيعها سنة ١٩٣٦ نوعًا من الصداقة بين الإنجليز والوفد، فانقطعت هذه الصداقة بإلغاء المعاهدة، والملك لا يريد الوفد والشعب سلبى، ومن هنا فإن استنتاج الشيخ زهران كان قائمًا على قراءة دقيقة للواقع الحى، ولكن الواقع السياسى لم يكن متفقًا مع رؤية الشيخ زهران، فقد ظن الوفديون أنهم الرابحون بمعاهدة ١٩٣٦، ولكن اتضح أن الرابح الوحيد هو الملك فاروق، فلم يحكم الوفديون بعدها إلا فى وزارة الحرب «١٩٤٢- ١٩٤٤» ثم فى الوزارة الأخيرة «٥٠- ١٩٥٢»، أى أنهم لم يكونوا فى السلطة أغلب سنوات ما بعد المعاهدة.

لقد اقتربت من المجال السينمائى من قبل أن أصبح موظفًا فيه، حيث أخرج لى حسن الإمام «بين القصرين» وتعاقدت على «قصر الشوق» و«السكرية»، فى تلك الأيام شغلت منصب رئيس صندوق دعم السينما، وعندما أصبح الدكتور ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة حوّل الصندوق إلى مؤسسة دعم السينما، وأصبحت رئيسًا لها طوال فترة وزارة ثروت عكاشة «١٩٥٩- ١٩٦٢» أى نحو ثلاث سنوات. وطلبت تأجيل تنفيذ «قصر الشوق» و«السكرية» لأننى أخجل من إنتاج قصص لى عن طريق مؤسسة دعم السينما وأنا رئيس لها، فرفض المسئولون ذلك لسبب اقتصادى هو أننى كنت أخذت «عربونًا» عن القصتين.

كان عمل مؤسسة دعم السينما التى أرأسها محدودًا، ولم تكن تنتج أكثر من فيلم واحد فى السنة. وبعد د. ثروت عكاشة جاء الدكتور محمد عبدالقادر حاتم فقرر إدماج مؤسسة دعم السينما مع مؤسسة السينما، ورأس المؤسسة الجديدة المهندس صلاح عامر، وعينت أنا فى وظيفة مستشار أدبى، كان حاتم يعتبرنا رجال ثروت عكاشة، ولكن فى الحقيقة فإن حاتم عاملنا معاملة غاية فى الذوق، وأنا والدكتور على الراعى لم يتعرض أحد منا للتجريح فى عهده، ولكن حاتم لجأ إلى أسلوب آخر، حيث استبعدنا فى ركن من أركان وزارة الثقافة من غير عمل أو سلطة، حتى عاد ثروت عكاشة مرة أخرى سنة ١٩٦٦ وعرض علىّ رئاسة المؤسسة واعتذرت.

وقبل الدكتور ثروت عكاشة اعتذارى عندما قلت له إن هذه الوظيفة سوف تقضى على حياتى وأريد أن أعطى معظم وقتى للكتابة الأدبية، ووعدنى بالبحث عن شخص غيرى، ثم فوجئت به يستدعينى من الإسكندرية ليقول لى «انتهى الأمر. أنت رئيس مؤسسة السينما.. هل تحب أن تخذلنى أمام عبدالناصر؟» وقبلت الوظيفة وهذه أول وظيفة كبيرة أقبلها كارهًا ومرغمًا، وعرفت أن الدكتور ثروت عكاشة رشحنى لهذا المنصب أمام الرئيس عبدالناصر، فرد عليه الرئيس بأن آرائى فى السينما سلبية فكيف أتولى هذا المنصب؟ وكنت تحدثت فى مجلة «الكواكب» مستهينًا بالسينما، فدافع ثروت عكاشة عن آرائى، وأكد أننى الأصلح لهذه الوظيفة، ولذلك طلب منى ألا أخذله بعد أن حصل على موافقة من الرئيس، ولم يكن رأى عبدالناصر فى ذلك الحوار بينه وبين عكاشة رأيًا سياسيًا، وأنا لم تأت لى أبدًا من ناحية عبدالناصر ملحوظة واحدة عما أكتبه أو عن آرائى السياسية.

وعملت رئيسًا لمؤسسة السينما لمدة عامين لم أفتح فيهما كتابًا ولم أكتب كلمة، وعشت فى اكتئاب عام، وكانت السينما مفلسة، ولا توجد لدينا سيولة، وأستطيع القول إنها أسوأ فترة فى حياتى الوظيفية، لكننا حاولنا تحريك الأمور واقترضنا مليون جنيه من البنك الصناعى، وبدأنا نعمل فى بطء، كانت وظيفة مقلقة للراحة، كان الممثلون يأتون لمكتبى فى شارع طلعت حرب ويهددون بإلقاء أنفسهم من النافذة بسبب البطالة، وكنا نعمل فى أجواء من الاتهامات والتشكيك، وهى الفترة التى حدثت فيها هزيمة ٦٧، وعندما اقترضنا مبلغ المليون جنيه وبدأنا نعمل فى بطء وجدت أمامى ثمانية أفلام فى اللمسات الأخيرة، فانتهينا منها وبدأنا بعرضها فى دور السينما، وتزامن العرض مع هزيمة ٦٧ فتعرضنا كمؤسسة سينما لهجوم حاد، كيف نعرض هذه الأفلام والبلد فى هذه الحال، ولم يتذكر أحد أن تلك الأفلام تم إنجازها قبل الكارثة.

كانت أجواء جحيم، فالرأى العام لا يرضى والصحافة معه بهذه الأفلام، وديوان المحاسبة يطالبنا بالعمل وعرض الأفلام، والدكتور ثروت عكاشة يطلب منا إنتاج روائع سينمائية وإذا طلبنا ميزانية من وزير المالية آنذاك الدكتور عبدالعزيز حجازى يقول لنا «اعملوا مثل فؤاد المهندس واكسبوا البلد خربت» كانت ورطة كبيرة لى خرجت منها بالعناية الإلهية، فقد اختلف الدكتور عبدالرازق حسن، المسئول المالى عن الإنتاج، مع الأديب والضابط جمال حماد كاتب قصة «شروق وغروب». 

طلب حماد من عبدالرازق حسن أن يكون كاتب السيناريو هو عبدالرحمن الشرقاوى، فانفجر فيه عبدالرازق كعادته ووقعت مشاجرة هائلة خرج حماد على إثرها إلى جمال عبدالناصر مباشرة ويبدو أن عبدالناصر طلب من ثروت عكاشة إبعاد عبدالرازق حسن واستدعانى ثروت عكاشة فى حضور الأستاذ حسن عبدالمنعم، وكيل الوزارة، وكان حسن عبدالمنعم- رحمه الله- على خلاف مع عبدالرازق، بسبب عصبيته وانفعالاته الحادة المتكررة، حيث جمعهما اجتماع فى لجنة التنسيق وكنت موجودًا وأراد حسن عبدالمنعم أن يبدى رأيًا فأسكته عبدالرازق طالبًا منه عدم الكلام قائلًا له- وهو كلام غريب- «أنت هنا فقط كوكيل وزارة وليس لك الحق فى إبداء الرأى» قال لى ثروت عكاشة إن عبدالرازق فشل فى تنفيذ الخطة، فقلت له أبدًا أنا مقتنع أنه نفذ الخطة الاقتصادية كأحسن ما يكون. 

وهنا لم يجد عكاشة منى ما يريد أن يعتمد عليه فى إبعاد عبدالرازق، قلت له «كلنا تحت أمرك، وأنا مسئول عن عبدالرازق رسميًا، وإذا تم إبعاده فلابد من إبعادى أنا أيضًا». 

أبلغنى ثروت عكاشة أننى يمكن أن أستمر فى منصبى إذا أردت، فقلت له «إننى أفضل أن أكون مستشارك، وهى الوظيفة التى عرضتها علىّ من قبل» وتم إبعادى أنا وعبدالرازق حسن عن مؤسسة السينما، وما شهدت به كان هو الحقيقة فى نظرى، وكانت هذه الشهادة لصالح الدكتور عبدالرازق حسن، فأنا رئيسه فى العمل، وكان الرجل موقفه سليمًا من الناحية المالية والاقتصادية والإدارية، فهو أستاذ من أكفأ أساتذة الاقتصاد فى مصر أما انفعالاته وتصرفاته مع الفنانين، فأنا لم أختره بل ثروت عكاشة هو الذى قدمه لى ثم هو يشكو منه بعد ذلك ويطلب منى التدخل لأصلح علاقاته مع الفنانين، والتى كانت تتعرض للفساد بسبب انفعالاته مع ماجدة وكمال الشناوى وغيرهما، وكان عبدالرازق رجل اقتصاد، ولم تكن له علاقة بالسينما ولا حتى عن طريق المشاهدة، وإنما أتى به ثروت عكاشة ليحل المشاكل المالية للسينما، وبعد هذه الواقعة بين عبدالرازق وحماد ثم لقائى مع ثروت عكاشة فى حضور حسن عبدالمنعم، استدعانى ثروت عكاشة مرة أخرى وقال لى «إن المنطق يقتضى إبعادكما أنت وعبدالرازق عن مؤسسة السينما ولكن إذا كان هذا سيضايقك فبإمكانك البقاء رئيسًا للمؤسسة، وسأعين عبدالحميد جودة السحار رئيسًا للإنتاج» رجوت ثروت عكاشة أن يعفينى وذكرته باعتذارى قبل ذلك عن هذا العمل لولا أن طلب منى ألا أخذله أمام عبدالناصر، وأكدت له أننى أفضل أن أكون مستشارًا له، وتقبل الرجل منى هذا الموقف، وحقق مطلبى بتعيينى مستشارًا له.

حل عبدالحميد جودة السحار مكانى كرئيس للمؤسسة، وغيّر كثيرًا فى نظامها الإدارى ولم يعد رؤساء الشركات مستقلين عن رئيس المؤسسة، وإنما أصبحوا نوابًا له فى القطاعات المختلفة بالمؤسسة، أما أنا فأصبحت مستشارًا لوزير الثقافة حتى خرجت للمعاش سنة ١٩٧١، مختتمًا حياتى الوظيفية الحافلة. وكانت أعلى درجة وظيفية حصلت عليها هى «رئيس مؤسسة» وهى تساوى درجة «نائب وزير» أما أعلى مرتب حصلت عليه فى الحكومة فكان ١٠٠ جنيه شهريًا، وحاليًا أحصل على معاش يصل إلى ١٦٠ جنيهًا شهريًا بعد ٣٧ سنة فى الوظيفة والحمد لله.

فصل من كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»