رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجوع إلى البلد

لم تنقطع علاقتى بقريتى هورين بركة السبع، رغم إقامتى فى القاهرة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، هناك أنام على راحتى، لم تعد القرية التى تركتها مطلع العمر كما كانت، ولم أعد كما كنت، رحل كثيرون كنت أشتاق للذهاب بسببهم، وسافر آخرون، وطالت الأحزان أرواح البعض، أذهب فى المناسبات، وأحيانًا دون سبب محدد، فقط لحاجتى إلى الابتعاد والتقاط الأنفاس، بعد رحلة شاقة مع السعى والمعافرة والنجاح والفشل والحلم، أفتقد الأيام الرحبة التى جمعتنا، بعد أسبوعين سأتم الستين، وأحلم بالعودة إلى هناك، والتفرغ للكتابة، ولكن كيف؟

مشاعر متناقضة تحاصرنى هذه الأيام، من ناحية يحتاج الواحد لأن يجلس إلى نفسه بعد خمسة وثلاثين عامًا من «النهَجَان»، وفى الوقت نفسه يحتاج إلى العمل لتعويض الخسائر التى يحدثها التقاعد، توجد فى الأدراج مشاريع كتابة تحتاج عمرًا آخر، ولكنها تحتاج أيضًا إلى «روقان بال»، ولكن أين نجد روقان البال؟

الأسبوع الماضى دعانى صديق عزيز جدًا من كفر عليم المجاورة لقريتى لحضور فرح ابن شقيقه الراحل، كان عشماوى الجلفى حريصًا على حضورى هذه المرة، كفر عليم هذه من أحب القرى إلى قلبى فى زمام منطقتنا، لأسباب كثيرة، بينها الأصدقاء الذين ورثت صداقتهم عن شقيقى الأكبر رحمة الله عليه، وبينها كرة القدم التى كنا نجرى خلفها فى كل مكان لتمثيل قرانا، وبينها صداقات الجامعة، وعلاقتى بعشماوى تجمع بين هذه الأسباب، كنت أعتقد أن بيت عائلته الجميل تم هدمه، كما حدث مع معظم البيوت التى تربطنا ذكريات بها، ولكننى فرحت لأنه كما هو، بيت واسع بأسقف عالية، وأعمدة عريقة، يشبه استراحات مهندسى الرى التى كانت منتشرة على طول النهر الخالد، شبابيك عالية غزيرة، المكان بالمساحة الخالية أمامه ينقلك إلى زمن آخر، فيه صفاء وطيبة وكرم ومحبة، سيدة المنزل أم صديقنا هى التى غابت عن المشهد، رحلت منذ سنوات بعد أن تجاوزت التسعين، كانت سيدة عظيمة ونادرة، فهى مثلًا تذهب إلى المدينة يوميًا مشيًا على الأقدام لشراء كل الصحف والمجلات، وتحتفظ بكل سطر كُتب عن فاتن حمامة، تحتفظ بصورها فى مكان خاص، قال لى رضوان عبدالعاطى إنهم اكتشفوا بعد رحيلها غرفة كاملة مليئة بكل ما يخص فاتن حمامة، احتاج يومًا كاملًا للتخلص منها.

وقيل لى إنها رحلت بعد رحيل فاتن بأسابيع قليلة، وإنها حزنت حزنًا عميقًا بعد سماعها الخبر.

فى سنوات الجامعة كنا نقوم بعمل معسكرات قبل الامتحانات، كل مرة لا يقل فيها المعسكر عن عشرة أشخاص، مرة فى هورين فى بيتنا البسيط، وأخرى عند حسن الجارحى فى قحافة فى طنطا، «وحسن هذا وأهله من أجمل وأنبل وأطيب وأكرم خلق الله»، ومرة عند أمجد مرعى فى ميت موسى بشبين الكوم، ومرة عند محمد أبوزنة فى مليج، وأخرى عند صفوت يحيى وهشام باشا فى قويسنا، وهكذا، كل ما أذكره من هذه الأيام المبهجة هو فرح أهلنا وسعادتهم بخدمة الجميع كل حسب ظروفه، الأصدقاء الجميلون من كل الدلتا معًا، محمد سلامة وسالم فرج من طنطا، مجدى حامد من كفرالشيخ، عبدالحكيم عطالله وعبدالقادر حمود «رحمة الله عليه كان من أجمل الأصدقاء»، وإبراهيم الحنفى من هورين، كل هؤلاء نجحوا فى الحياة وتحققوا وبارك الله فى ذريتهم، كانت وسيلة الانتقال التى نتحرك بها بين القرى، هى جرار زراعى، يسع الجميع، بهجة ومحبة وطيبة وأخوة وضحك وغناء وشعر، فرقت الأيام بيننا بسبب سفر معظمهم إلى الخليج أو أوروبا، ولكن الذكريات العزيزة التى يحملونها فى صدورهم والتى أعادوها إلى الأسبوع الماضى جعلتنى أتذكر الشاب الذى كان ينتظر القطار يوميًا فى محطة بركة السبع ولا يعرف أين يستقر فى النهاية، فاجأنى عشماوى بدعوته أصدقاء لم ألتقهم منذ ١٩٨٣.. وجعلنى أفكر جديًا «أرجع بلدنا».