رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا هلل البعض لصعود طالبان؟



توسع الباحثون والمحللون في مناقشة الأبعاد السياسية والأمنية والاستراتيجية المرتبطة بسيطرة حركة "طالبان" على زمام الأمور في أفغانستان، ومع أهمية هذه الأبعاد ومحوريتها بطبيعة الحال، إلا أن هنالك ملمحا آخر "خطير" و"مرعب" يحتاج إلى وقفة وإلى تحليل وتركيز كبير سواءً من النخب الفكرية والثقافية، أو من منظومة صنع القرار، هذا الملمح هو تهليل وابتهاج العديد من القطاعات المجتمعية لصعود طالبان، واعتبار سيطرتها على كابول وعلى أفغانستان "انتصاراً للإسلام"، وبطبيعة الحال اعتبرت هذه القطاعات أن ما تقوم به طالبان من تسلط باسم الدين يدخل في إطار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وخطورة هذا الأمر أن هذه القطاعات تمثل "قنبلة" قد تنفجر متى تهيأت الظروف لذلك، فضلاً عن أن هذا الأمر يمثل تنبيهاً للمؤسسات المعنية بـ "تجديد الخطاب الديني"، وبناء الإنسان المصري، بضرورة عمل مراجعة للمقاربات المتبعة في هذا الصدد، ومدى فاعليتها وما تم إنجازه في هذه الملفات، حتى يتم الوقوف على مواطن الخلل، ومعالجتها بالشكل الأمثل.
أكثر هذه الفئات التي هللت لصعود طالبان يُنظر إليهم على أنهم "ضحايا" لحالة التجريف الكبيرة التي تعرض لها المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة وذلك مع غياب فكرة "بناء الإنسان" عن أولويات نظم الحكم المتعاقبة، فضلاً عن غياب نموذج معرفي منضبط وواضح تبنته هذه النظم بما يؤدي إلى بناء "الشخصية المصرية"، بالإضافة لذلك عانت المؤسسات الدينية والثقافية خلال هذه الفترات من غياب واضح للدور الخاص بها، وذلك بسبب الأزمات البنيوية لهذه المؤسسات، والسياق السياسي والمجتمعي المحيط بها، وقد أدت هذه الحالة إلى خلق مساحة فراغ كبيرة في المجتمع المصري، استغلته جماعات الإسلام السياسي بشقيها الإخواني والسلفي، وقامت بملء هذا الفراغ، ونشر أفكارها سواءً عبر العمل الدعوي والديني من خلال المساجد والساحات والخطب، أو عبر أشرطة الكاسيت والشاشات التلفزيونية وكافة المساحات التي استطاعت اختراقها، أو عبر العمل الأهلي والخيري والتنموي وتوظيفه بما يخدم على مشاريع هذه التيارات.
هذه الجماعات لم تستهدف فقط تشكيل قواعد تنظيمية لها عبر استقطاب عناصر المجتمع لصفوفها، بل سعت للتأثير على "العقل والوعي الجمعي" للمجتمع، وجعله متأثراً ومتماشياً وجملة المفاهيم التأسيسية المتطرفة التي تتبناها، ومن هنا نجد قطاعات واسعة لا تنتمي إلى هذه التيارات على المستوى التنظيمي، ولكنها تتبنى نفس رؤاها وقناعاتها خصوصاً في المسائل الدينية والاجتماعية والسياسية والعالمية.
أكبر التداعيات السلبية التي نتجت عن هذه الحالة هو عدم قدرة هذه القطاعات على "التفكير"، والخلط الشديد بين الأمور، وتغليب العاطفة الدينية أو السياسية على اعتبارات المنطق والموضوعية والأخلاق والدين نفسه، فلا تجد إدراكاً للواقع وسياقاته وتعقيداته وتفاصيله، وهو ما يُنتج "جهلاً مقدساً" حسب تعبير "أوليفييه روا"، ومن هنا يمكن فهم دعم هذه القطاعات لطالبان واحتفاؤها بها، لأن الراسخ في وعي هؤلاء أن كل من يرفع شعارات الدين خصوصاً ما يرتبط "بالحكم وتطبيق الشريعة وعودة الخلافة إلى آخر هذه الشعارات الشعبوية" فهو أولى بالنصرة والتأييد، بغض النظر عن حقيقة هذا الشخص أو التنظيم، وبغض النظر عن جرائمه بحق المجتمع وتطرفه الشديد، واقتصادياته، والجهات التي يتعاون معها، فالمهم أن هذا التنظيم الإجرامي يرفع شعارات الدين، ويمارس التسلط باسم الدين، ويفرض على الناس بعض الإجراءات الشكلية والظاهرية في إطار هذا التسلط، وهنا يوجد ملمح آخر وهو أن مفهوم "التدين" نفسه حدث له تفريغ كبير من مضمونه، حيث بات محصوراً في إطار الشكليات (النقاب – اللحية – السلام على المرأة الأجنبية .... إلخ)، بعيداً عن مضمون وجوهر التدين والمرتبط بمقاصد الشريعة وأهدافها السامية والقيم النبيلة التي جاءت لتكرس لها في المجتمع.
تدعونا مثل هذه الظواهر إلى عمل مراجعة حقيقية لما نتبناه من مقاربات وسياسات في ملف "بناء الإنسان"، و"تجديد الخطاب الديني" باعتباره إحدى الركائز الرئيسية لعملية بناء الإنسان المصري، والحقيقة أن تصريحات الرئيس "السيسي" مع الإعلامية عزة مصطفى خلقت أملاً لدى كثيرين أن تكون هذه بداية حقيقية لجعل هذا الملف على رأس أولويات الدولة المصرية في المرحلة المقبلة.