رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سادة عقولنا عبيد مشاعرنا

شكلها كدا، ولو إني مش متابع بـ دقة، فيه عركة ما بـ شأن أحمد فؤاد نجم و"أشعاره".
ناس بـ تهاجم، وناس بـ تدافع، وناس بـ تقف جون، وناس بـ تتهم ناس بـ التخلف، وناس تتهم ناس إنها تفرض الصوابية السياسية بـ أثر رجعي، وناس تطالب بـ توخي السياق التاريخي، أو الظروف السياسية الاقتصادية الاجتماعية، والحكاية فيها كلام كتير.

خليني أجردل بـ جردلي فيما يخص الراحل العزيز أبو النجوم.

أولا، الشعركما أفهمه، يتجاوز فكرة "الكلام الموزون المقفى"، لـ إنه الوزن والقافية دول موجودين في حاجات كتيرة، لا نعدها شعرا، ألفية ابن مالك بتاعة النحو، ألعاب الأطفال، هتافات مشجعي الكورة، ودعاة التصويت في الانتخابات، الأمثال الشعبية، الألغاز. 
حتى محمد الغاياتي، تلاقيه يقول لك: إيريك، اللاعب الحرك، وأيمن حفني تملي بـ يتحفني، ومحدش قال ع الغاياتي شاعر (ولا معلق)

المهم، الوزن والقافية مش كفاية، فيه عناصر تانية وقيم أخرى، زي "المجاز"، اللي اتكلمت عنه كتير، وزي "التكثيف"، اللي هو تقول معاني كتير بـ كلام قليل، وزي "التعامل مع النفس البشرية "بـ اعتباره "شعر" جي من الشعور.. بـ التالي، قد إيه إنت بـ توصل لـ مناطق أعمق في المشاعر، وطرق النظر والتعامل مع التجارب والخبرات، والحياة عموما.

كمان زي "الإبداع" بـ معنى إنه ما تقوله كان على غير مثال سبق، يعني اللي بـ يشبه وش الحبيبة بـ القمر، وشعرها بـ الليل، هو بـ يعيد إنتاج مجازات عملها ناس قبله، فـ مفيش إبداع، بـ غض البصر هو بـ يرصها إزاي.

بـ اختصار، الشعر دا موضوع ضخم، له عناصر متعددة، قد اللي قلتهم عشرين مرة، قد تهتم بـ بعضها على حساب الآخر، قد يتميز الشاعر في بعضها دون الآخر، لـ ذلك لما بـ آجي أنا شخصيا أتذوق وأحلل (في حدود فهمي ومعرفتي) بـ أشوف الشاعر دا حقق إيه؟ 
مش مهم حتى "محققش" إيه، إنما إيه الموجود في شعره.

بـ هذه الرؤية، بـ ألاقي إنه ما كتبه أحمد فؤاد نجم هو منتج فقير جدا يكاد يكون بائس، نادر جدا جدا إنك تلاقي صورة مدهشة، تفتح الباب لـ التأمل والخيال، أو شعور خاص يبين لك، إنت نفسك بـ تتعامل مع الحياة إزاي، ولا بناء درامي (ولو على مستوى بسيط)،
القيمة الأكبر فيما كتبه أحمد فؤاد نجم هي "التفاعل مع الأحداث السياسية"، اللي كتير من الناس شايفين إنه «موقف»، اللي هو صعب جدا تستدعي زيارة نيكسون من غير ما ييجي في بالك: شرفت يا نيكسون بابا/ يا بتاع الووتر جيت
أو ديستان من غير: فاليري جيسكار ديستان/ والست بتاعته كمان
أو النكسة من غير: الحمد لله خبطنا/ تحت بطاطنا
ولا ولا ولا من اللي حصل أواخر الستينات، وطول عقد السبعينات، من غير ما يكون ما كتبه نجم جزء من هذه الأحداث.

بـ التالي، ما أراه، إنه طبيعي جدا جدا، تتعامل معاه من باب السياسة، مش من باب الشعر، فـ تكون رؤيتك له مرتبطة بـ نسقك الأيديولوجي، و"موقفك" إنت كمان من الأحداث.

ثانيا، على مستوى السياسة، مش بـ أشوف نجم "معارضة"، بـ معنى إنه يحمل نسقا أو رؤية أو أيدلوجية ضد النظام الحاكم، إنما هو هتيف لـ المعارضة، عشان أوضح فكرتي أكتر، الأبنودي مثلا، مواقفه لم تكن تتميز بـ ما يسمونه "النقاء الثوري"، وكان بـ يروح وييجي، ويثور شوية ويهادن شويتين.
لكن لما يكتب قصيدة سياسية زي "سوق العصر" أو "المتهم"، أو "على قد ما الغيم مغيم" أو أو أو، إنت ممكن تناقش الأفكار اللي طارحها، وتشتبك معاها، وتوافق عليها أو ترفضها، أو حتى تلعنها.

إنما المسكين نجم يشوف إنه اليسار المصري بـ يحتفي بـ سقوط سايجون، فـ يكتب حاجة احتفائية، تنم عن إنه أخينا ما يعرفش سايجون دي فين، اللي هو: سايجون درة يا ثوار/ عادت حرة لـ الأحرار. شكرا، نورت المحكمة.
أو يشوف معارضة لـ زيارة رئيس غربي يروح فاتح المشتمة وتحديف الطوب، أو يلاقي حزن على رحيل جيفارا، فـ يكتب "جيفارا مات" والبطل فوق مدفعه.
أي هو ما عندوش أي رؤية من أي نوع هو "ناقل جيد لـ الحرارة"، إحنا "مع" كذا ولا "ضده"، هكذا في العموم ومن على السطح، أدواته في دا: الردح والانفلات والسخرية، وهو كان يتمتع بـ ظل خفيف ولسان فالت، وحصيلة شعبية هائلة من العبارات الدارجة، سهلة الانتقال، وسلاسة غير عادية في الانتقال بين هذه العبارات.
دا كان بـ يخليها أصلح لـ الغناء، وأسرع في الوصول، وبـ اعتباري هتيف قديم، ونظمت وشاركت في عشرات المظاهرات، أقدر أقول لـ حضرتك إنه الطريقة دي بـ تشعلل الدنيا.
يا عرب/ يا عرب/ يا عرب في أي مصر
اسمعوا صوت شعب مصر
اللي خانوا العهد بينا/ واستباحوا كل حاجة/ واستهانوا بـ العروبة/ واستكانوا لـ الخواجة/ عمرهم ما يكونوا منا/ هم حاجة وإحنا حاجة
هم باعوا البندقية/ والوطن والجلابية/ وإحنا أنصار القضية/ إحنا ما بـ نبيعش حاجة
فـ الدنيا تهيص، والحماس اللحظي يشمل الحضور، تيجي تفتش في اللي قاله، متلاقيش حاجة، بس: إحنا الشعب حلوين، وهم النظام وحشين.

ثالثا، ولـ إنه أحمد فؤاد نجم كـ شخص معندوش نسق معرفي، ولا حتى أيدلوجيا، ودوره هو "تسخين الجماهير"، طبيعي يلعب على مفردات هذه الجماهير، ويستخدم معاييرها، اللي ممكن تشوفها متخلفة، سواء بـ مقياس النهاردا، أو حتى تشوفها متخلفة بـ مقاييس وقتها.
زي إنه يوصف جيهان السادات بـ إنها "مرة سابت"، أو إنك تقول على أم كلثوم: "شبه إيد الهون" و"مرضعة قلاوون"، أو تشوف عبدالحليم حافظ "شخلوعة"، أو إنك تستخدم الخمور كـ دلالة على الرذيلة في المطلق، وتقول لـ دا "يا ع...ص"وتقول لـ دول "جتكو فضيحة"، وغيره من القاموس اللي كلنا حافظينه، سواء بـ نحبه أو ما بـ نحبوش.
لكن، لما المعارضة دي ما بقيتش بـ الزخم والنشاط دا على مستوى الحركة والتظاهرات مع مجيء حسني مبارك لـ الحكم، أيا كانت الأسباب، توقف أحمد فؤاد نجم تقريبا. 
خلاص، ما بقاش "دوره" مطلوب، وعاش على الذكرى، ونحت له عدد قليل من الأغاني لـ بعض المطربين، ودمتم.

رابعًا، إدخال شخص نجم في الموضوع، ملوش عندي محل من الإعراب، يطلع زي ما يطلع: مناضل/ صايع، ثوري/ انتهازي، وفي/ غدار/ إلخ إلخ إلخ، كل دي أحكام أخلاقية، تتطلب اقتحام خصوصياته والتدخل في نواياه، وملهاش ملكة ولا مسكة دي حاجة شخصية كونها بـ راحتك، وتداولها في حدود معارفك الشخصية، إنما تقييمها على الملأ مش شغلة حد، ولا تدخل في نطاق المسموح، على الأقل بـ النسبة لي.

خامسًا وأخيرا، أحمد فؤاد نجم عمل معجزة، وهو إنه أصبح ممثل لـ حالة في تاريخ مصر، على مدار ما يقرب من 15 سنة، ودي حاجة مش سهلة أبدا.
موقفك منه غالبا هـ يبقى موقفك من الـ15 سنة دول، والحراك اللي حصل فيهم، فـ لو رؤيتك لـ دا سلبية، هـ تطلع فيه القطط الفاطسة، ولو تحمل لها تقدير ما أو حنين ما (خصوصا لو عاصرتها وشاركت فيها أو تمثلتها في عصور لاحقة) فـ غالبا مش هـ تبص لـ تفاصيلها
ودا ليه؟ لـ إننا سادة عقولنا وعبيد مشاعرنا، وزي الست ما غنت: أهرب من قلبي أروح على فين.