رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وداعًا وزير الغلابة

«الإنسان موقف».. تعبير سمعته وتعلمته فى بداية حياتى السياسية من المناضل العظيم خالد محيى الدين. ولذا كان، وسيظل، هذا المبدأ هو السر الذى يرشدنى للطريق فى حياتى الخاصة، ويكون علامة مهمة فى الحكم والتعامل مع الأشخاص. والموقف هنا وبكل وضوح هو الموقف المنحاز إلى الجماهير، وإلى تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والإخلاص فى العمل الذى يُسند إلى الإنسان بكل همة وبكل أمانة، مع مراعاة وتفعيل القيم الدينية والإنسانية. 

وبالطبع فالأشخاص الذين يؤمنون بالمبدأ، ويتمسكون بالموقف، ويُخلصون فى العمل هم البشر المتميزون الذين يتركون سيرة حسنة وبصمات تظل على الدوام مثالًا ونبراسًا يهتدى به فى الإيمان والالتزام بالمبدأ والموقف.

ولا شك، فتاريخ مصر يموج بمثل هذه الشخصيات العظيمة ذات التاريخ المشرف عملًا وسلوكًا، ولذلك يضعهم الشعب المصرى فى لوحة الفخر والفخار. ففى التاريخ المعاصر هناك رموز سياسية أدت أدوارًا لا تزال فى ذهنية الضمير الجمعى المصرى. فهناك صدقى سليمان، وزير السد العالى، وهناك عزيز صدقى، رائد الصناعة المصرية، بعد يوليو ٥٢، وهناك كمال رمزى إستينو، وزير التموين.

وهناك الكثير والكثير من أبناء مصر الذين نعتز بهم عنوانًا للإخلاص والعمل الوطنى من أجل مصر.. ومن ضمن هؤلاء المهندس حسب الله الكفراوى، وزير الإسكان والمجتمعات الجديدة الأسبق، المسمى بـ«وزير الغلابة» الذى وافته المنية الخميس الماضى، عن عمر يناهز الواحد والتسعين عامًا.

هنا يكون السؤال: لماذا الحديث عن الراحل وهو وزير حكومى أُسند إليه موقع محافظ دمياط ووزير الإسكان وكان نائبًا وقياديًا فى الحزب الوطنى الديمقراطى فى الوقت الذى كنت فيه محسوبًا على المعارضة خاصة فى تلك الفترة التاريخية؟.. هنا يمكن أن نقول إن المعارضة الموضوعية التى تسعى إلى مصلحة الوطن فى المقام الأول بعيدًا عن الانتماءات الحزبية الضيقة توجب الأمانة والحكم الموضوعى على الأشخاص والقرارات فى إطار الصالح العام والموقف الوطنى والأمانة فى العمل. 

عمل الكفراوى مهندسًا فى السد العالى بعد اكتشاف صدقى سليمان إخلاصه، ويحكى أن عبدالناصر كان فى زيارة للسد، فشاهد شخصًا يجرى وراء مهندس بالحذاء، فلما سئل عن السبب اتضح أن هذا المهندس قد قام بسرقة سيارة أسمنت، فكان نصيبه ما فعله الكفراوى معه.

فى عهد السادات عُيّن محافظًا بدمياط، حيث إنه من أبناء كفرسعد محافظة دمياط. وكان قد ترك آثارًا إيجابية تمثلت فى علاقته المباشرة مع المواطن بلا حواجز ما جعله بعد ذلك نائبًا عن دمياط. ثم عُيّن وزيرًا للإسكان والمجتمعات الجديدة. واستمر فى المنصب فى عهد مبارك.

عمل فى إحدى فترات حياته مستشارًا مع المهندس إبراهيم شكرى عندما كان وزيرًا للزراعة فى عهد السادات، وفى عام ١٩٨٥ قام حزب العمل الاشتراكى بعمل معسكر شبابى فى وادى النطرون. كانت المفاجأة حضور الوزير معنا طوال اليوم ويقوم بالعمل مثله مثل أى شاب آخر. وكان ذلك تقديرًا خاصًا من الكفراوى لـ«شكرى». تعرفت عليه حينها كعضو فى اللجنة التنفيذية للحزب، واستمرت العلاقة أثناء وجودى فى مجلس الشعب ١٩٨٧، وأشهد الله أنه لم يتأخر فى الموافقة على منح شقق للمستحقين الحقيقيين. وكم من شقق أخذت الموافقة عليها.

توطدت العلاقة من خلال رؤيتى السياسية التى مارستها فى الإعلام، فكان بيننا تواصل تليفونى دائمًا وفى كل المناسبات وغير المناسبات. بعد ٢٥ يناير كان يجمعنا معًا كثير من البرامج التليفزيونية. فقد كانت له آراء وطنية تُحترم. حتى إنه كان قد اقترح تشكيل لجنة باسم خدام مصر، وفى أحد أحاديثه الصحفية لجريدة «المصرى اليوم» ذكرنى بالخير وبأكثر ما أستحق، حتى إنه قد اقترح تشكيل مجلس رئاسة من عشرة أشخاص رشحنى من أحدهم.

رحم الله وزير الغلابة وأسكنه فسيح جناته وعوّض مصر العزيزة عنه بالأبناء البررة أصحاب المواقف الوطنية الذين يُعلون مصلحة الوطن. حفظ الله مصر وشعبها العظيم الذى ينجب العظماء.