رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَاضْرِبُوهُنَّ".. بين المعنى والمقصد

كثيرًا ما نتوقف عند بعض الأمور التي يلتبس علينا فهم مقاصدها ومرماها، ومن هذه الأمور ما ورد في الآية الكريمة: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، وتحديدًا في قوله تعالى: (وَاضْرِبُوهُنَّ)! فهل قصد بها المعنى الحقيقي للضرب أي الإيذاء البدني؟! ولمن؟! للزوجة أي الأم وشريكة العمر من قبل الزوج وبأمر إلهي في النص القرآني الكريم بغية تهذيبها وحضها على سلوك يرتضيه زوجها.. هل هذا يتفق مع ما ينطوي عليه ديننا الإسلامي السمح الحنيف من إعلاء وتقدير للمرأة ؟!
     إن المستعرض للقيم الرفيعة التي ساقها الدين الإسلامي في طياته لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصدق أنه يعطي رخصة للزوج لإهانة المرأة مهما تعاظمت الأسباب؛ فقد كرمت النساء أيما تكريم منذ فجر الإسلام، والتاريخ الإسلامي يزخر بشواهد كثيرة.. إذن لابد من الوقوف على المقصد الأساس من لفظة الضرب الواردة في الآية الكريمة لنزيل اللبس ونقف على المعنى الحقيقي المراد؛ فهو بالتأكيد يبعد كل البعد عن معنى الضرب المتعارف عليه.. وبالاطلاع على المعاجم وقواميس اللغة نجد أن (الضرب) هنا أبعد ما يكون عن الركل والجلد واللطم وغيرها.

إنما يرد الضرب لمعان تحض على المباعدة والهجران والانفصال والانعزال والتجاهل في أمثلة من القرآن والأقوال المأثورة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الحديد ١٣.. والمعنى تم الفصل بينهم بحاجز وسور، وفي المثل جاء (ضرب به عرض الحائط) بمعنى الإهمال والإعراض عنه، وهو أمر يعمل به الأسوياء من المسلمين.

من أجل ذلك كله لزم التمعن في سبر أغوار المفردات لمعرفة المبتغى الفعلي من وراء استخدامها، حتى لا نقع في فخ الفهم الخاطئ لأمور ديننا ودنيانا، فمن غير المنطقي أن نفتح النار على خط الجبهة الأسرية ونعزز مفاهيم تدعو إلى العنف الأسري بعيدًا عن السكينة والسكن، والمودة والرحمة المؤسسين الحقيقيين لقيام علاقات إنسانية قوامها الاحترام والتقديس للرباط المقدس وهو الزواج المطوق لكل هذه الأسس، الذي ينبني على تكريس كل المشاعر الراقية التي تعلي من شأن المرأة التي هي الأم الموعودة بالجنة تجري تحت أقدامها كتكليل لحياة العطاء الطويل على مدار عمر بأكمله تجاه الأسرة والأبناء بل الأحفاد أيضًا.

أعلم أنني لست الوحيدة التي شغلت بأمر هذه الآية الكريمة واستوقفتها (واضربوهن) وحارت في أمر تفسيرها والمقصود من ذكرها في النص القرآني ولم يستسيغها عقلي في المعنى الشائع لها؛ فديننا الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع في دستور التعامل البشري الإنساني هل يعقل أن يأخذ هذا المنحى الذي يحض على العنف والمعاملة الخشنة القاسية مع أرق مخلوقات الله.. المرأة؟! 

لكني وجدت أنه لزامًا عليَّ أن أتطرق إلى مناقشة هذا الأمر في دعوة إلى إعمال العقل عملًا بنصيحة رسولنا الكريم أنتم أدرى بشئون دنياكم.. فهل نقبل بمهانة الزوجة على هذا النحو بعدما كانت معززة مكرمة في منزل والديها تجد نفسها معرضة للضرب بمعناه العقابي البدني بمجرد اقتراف ذنب لا يرضى عنه شريك الحياة؟! هل عدمنا السبل لإيجاد طرائق أخرى تهذب وتصلح ذات البين دونما أدنى نيل من الكرامة أو وقوع إيذاء يترك ثقبًا في الروح وجرحًا لا يداوى للكرامة! بالطبع هناك حلول داخل التفسير الصحيح للضرب!

إذن فالآية التي نحن بصدد التأمل في معانيها وما تنطوي عليه يقينًا تحض على الوعظ، ثم الهجر في المضجع والاعتزال في الفراش والمباعدة، تأديبًا وإصلاحًا حتى تستقيم الأمور في نصابها بين الزوجين، ولو بعد حين، فهما معًا شريكان في تقويم النفس والأسرة وتعديل مسار العلاقة الزوجية، فلابد أن يلفظا عنها أية شوائب سلوكية تخلخل كينونتها، وتعرض استقرارها للخطر، وتدفع بأشكال وألوان وأهوال العنف الذي انتشرت مؤخرًا بعيدًا عن مرمى الأسرة الصحيحة القوية التي تعد حلقة في سلسلة حلقات متتابعة تمثل الركيزة لبناء مجتمع صالح تحكمه القيم الإنسانية التي تعد أساسًا لتربية أبناء أسوياء يقوم عليهم مستقبل الأمة الإسلامية جمعاء.

- أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون